د. رشا سمير تكتب: عبستك وعتبستني وعنبست مصر!

مقالات الرأي

دكتورة رشا سمير
دكتورة رشا سمير

أعود بالذاكرة إلى بدايات مشواري الأدبي وقتما كانت أمي تشجعني على القراءة وكأنها فرض مقدس لا مفر منه ولا حياد عنه.. وأتذكر حين كنا نذهب صغارا إلى المسجد لنتعلم قراءة القرآن وتجويده دون محاولة لإحتلال عقولنا ولا تضليل قلوبنا، وكيف أنسى معلمة اللغة العربية التي كانت كلما كتبت موضوع تعبير، أثنت عليه وشجعتني لقراءته في طابور الصباح، على الرغم من أنني كنت في مدرسة أجنبية، لكنهم كانوا يدركون قيمة اللغة العربية وأهمية تدريسها. 
هكذا وقعت في غرام لغتنا العربية الجميلة، عشقا في مفرداتها وتعبيراتها وكناياتها..
تذكرت تلك الرحلة الطويلة وأنا أتابع المعركة العجيبة الدائرة على أطراف مواقع التواصل الاجتماعي بين مطرب المهرجانات وزوجته، والتي إنتهت بالتعادل صفر صفر!.
توقف البعض عند قصة الحب الزائفة وتوقف البعض عند الإهانات التي تبادلها الطرفان على الهواء وتوقف الكثيرون أمام نشر محادثاتهم الخاصة على الملأ..أما أنا فقد توقفت عند المأساة الحقيقية الكامنة خلف القصة، عند الجريمة التي إرتُكبت في حق البشرية وهي ببساطة..
" عبستك إزاي وانتي مش بستاني"!.
وكان تعقيبي الوحيد هو: ياللهول! (بصوت يوسف وهبي).
الحقيقة أن المأساة لا تكمن في العلاقة الزائفة أوالسوشيال ميديا القاتلة بل تكمن فيما آل إليه التعليم في مصر، مطرب المهرجانات ليس فقط المتهم الوحيد بضياع اللغة بل هو نتاج لسنوات طويلة ضائعة من المحاولات الفاشلة لتطوير التعليم في مصر، هو شاب مثل ألاف الشباب الذين تعلموا في مدارس حكومية أو خاصة أو حتى تجريبي، وتخرج منها وهو يظن بكل حسن نية أن "السلام عليكم" تُكتب كما تُنطق "سامو عليكو" وأن " بسطاني" لها علاقي ب "بستاني" على الرغم من أن الثاني ليس إلا مسئول ري الفاكهة ولا علاقة له بالسعادة!. بل وتحول الفرانكو أراب إلى لغة العصر الحديث بمفرداته البائسة.
حللت ضيفة على العديد من معارض الكتب العربية وبحكم تواجدي في الندوات وتعاملي مع الشباب في تلك المعارض بدا جليا لي أن أغلب الدول العربية التي تمتاز بتاريخ وحضارة مثلنا تهتم بشكل كبير بتدريس اللغة العربية في المدارس بجانب دراسة اللغات الأخرى، ولذا فقد أصبح التواجد الثقافي لهذه البلاد على خارطة الثقافة العربية والأداب والفنون تواجد إيجابي، كما أنني قابلت شباب صغار يتمتعون بسماع صوت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وخصوصا في القصائد الصعبة، بالمقارنة قلما نجد شاب مصري يستمع إلى أم كلثوم اليوم بل سنجد أن أغاني المهرجانات قد إحتلت كل مساحاتهم الخالية، فأصبحت الكلمات الرخيصة والأداء والزي العجيب وتسريحة الشعر نسخة طبق الأصل من مطربي المهرجانات، أعلم تماما أن هناك من يتمتمون الأن وهم يقرأون كلماتي ويقولون:
" وماله ما كل وقت وله أذان"
إسمحوا لي أن أعترض على مضمون هذه الجُملة، فمن الطبيعي أن كل وقت وله آذان وكل عصر وله مقاييسه وكل جيل وله مذاقه المختلف، لكن الأكيد أن القديم تاريخ والتاريخ لا يفنى بل يبقى لنتعلم منه..
لا أطالب بالوقوف في وجه التطور الطبيعي للزمان ولا أحارب أغاني المهرجانات ولا السوشيال ميديا لأنها تبدو لي واقع يجب تقبُله برغم مرارته، لكني أطالب الدولة وكل من له دور من قريب أو من بعيد بالثقافة والتعليم والإعلام بتدشين حملة حقيقية لها مردود لإحياء اللغة العربية وعودتها إلى المدارس ليس فقط كمادة نجاح ورسوب بل كقيمة وطنية ومعنى حقيقي للعروبة،
أمس كان برنامج (لغتنا الجميلة) الذي كان يقدمه الإعلامي فاروق شوشة برنامج له قيمة وإستطاع أن يغير ساكنا، اليوم تحولت برامج التوك شو إلى حوارات فارغة لجذب ترندات وافتعال معارك لشغل الرأي العام واختفت البرامج الثقافية بحجة أن ليس لها مشاهد.
برامج المسابقات التي يتم فيها سؤال الشباب في الشارع المصري عن معلومات ووقائع تاريخية تأتي بإجابات تليق ببرنامج كوميدي..إجابات ليست من خارج الصندوق بل من الفضاء الخارجي!.
الشباب لا يعرفون من هو سعد زغلول، ولا يعرفون أن "صحراء" لا تكتب بالسين، ولا يعرفون إذا ما كان الرئيس السادات قد جاء أولا أم عبد الناصر؟..ببساطة، لا يعرفون شئ!.
يا سادة.. ما نزرعه اليوم نحصده غدا، وما زرعناه طوال السنوات الماضية من تعليم ركيك وثقافة باهتة اللون جعلت حصاد اليوم مجرد هشيم تذروه الرياح!.
إنه التعليم يا سادة..التعليم!.
                                                [email protected]