منال لاشين تكتب: ترشيد الاستيراد يوفر أكثر من ١٢ مليار دولار فى العام

مقالات الرأي

منال لاشين
منال لاشين

اهتمام المصريين كل فئات المصريين بالدولار يبعث على الدهشة، وافتكاسات بعض من يسمون أنفسهم خبراء اقتصاديين يبعث على الأسى، وما بين الدهشة والأسى تحول أو بالأحرى حولنا الدولار إلى لعنة لا نستطيع تجاوزها، ونصف إله تتمحور حوله كل المشاكل وتبدأ منه كل الحلول لها.

والبعض استغل الأزمة الاقتصادية سياسيا واجتماعيا، كما أن مناخ من التشاؤم الشديد الطارد للعمل والمحبط للهمم يحيط بالمناخ الاقتصادى. كل ذلك بسبب رؤية قاصرة لإمكانيات مصر الذاتية جدا لتوفير ليس مليار ولا حتى ٧ أو عشرة مليارات دولار من صندوق النقد وطرح السندات الدولارية، ولكن من خلال توفير أكثر من ٣٠ مليار دولار خلال عام واحد دون اللجوء إلى الاقتراض أو الضغوط على الموازنة أو جيوب المصريين التى لم تعد تحتمل. هذا الكلام ليس سحرا أو شعوذة..بل أن الحكومة ناقشت بعضا من الإجراءات التى يمكنها أن تحقق عائدا دولاريا ضخما قبل ذلك، ولكنها كالعادة وضعت الإجراءات فى ثلاجة حتى لا تصاب الأفكار بالعفن أو ربما خوفا من العين والحسد لو نجحت فى تنفيذ مهمة رفع حصيلة الدولار من العملة.

 

أسهل الطرق لتوفير حصيلة دولارية هى ألا تنفق كل ما لديك من دولار، وهنا يتعمد الإخوان والأغبياء بمقارنة وضع الدولار فى أيام مبارك بعد خطة الإصلاح الاقتصادى، ووضعه الآن.متجاهلين فارقًا مهمًا جدا وهو عملية البناء الشاملة والضخمة والمتعددة التى تشهدها مصر من طرق لكبارى لجامعات لمدن جديدة إلى مشروعات عملاقة فى صناعة الدواء وغيرها، وكل ذلك يتطلب أن تحرص مصر على توفير معظم الحصيلة الدولارية للبناء، وقد تنبه محافظ البنك المركزى الأسبق هشام رامز، ففى أول حديث تليفزيونى بعد أقل من شهرين على توليه المنصب أطلق صافرة الخطر، وقال إن استيراد سيارات بأكثر من ٣ مليارات دولار، وأجبان وشيكولاته وحلويات وفواكه بأكثر ٢ مليار دولار هو نوع من الجنون فى بلد يبنى نفسه ويطلق قناة جديدة ويبنى مدنًا وينشئ طرقًا وكبارى ويعيد بناء مصر أو بالأحرى يبنى مصر بعد أن أهمل مبارك عملية البناء، ولم يستفد من عوائد الإصلاح الاقتصادى. لم يفهم الكثيرون سر تحذير رامز وتكرار التحذير مرة وعشر مرات. فقد بدا كل شىء على ما يرام.. عوائد القناة فى ارتفاع دائم، وتحويلات المصريين فى الخارج، وهناك مليارات عربية ما بين منح وقروض ميسرة وودائع، وذلك لأننا لم نتعود التحوط للمشكلات والأزمات والطوارئ، ولو كنا وضعنا خطة لتقليل الاستيراد الترفيهى أو الذى يمكن الاستغناء عنه لكان الاقتصاد المصرى أكثر قدرة ومرونة فى مواجهة أزمات كورونا والحرب الروسية، ولما وصلنا الآن إلى الترشيد القسرى حيث أدى نقص الدولار فى السوق إلى أزمات عشوائية لوكلاء السيارات ومستوردى الأجهزة وبعض السلع، ورغم أننا تأخرنا كثيرا فى هذه الخطوة فلا يزال أمامنا فرصة لترشيد الواردات غير الضرورية، فلا يعقل أن ننفق ٢٣٠ مليون دولار فى ثلاثة أشهر لاستيراد ثلاجات وغسالات وأجهزة كهربائية، وذلك رغم وجود صناعة مصرية ذات جودة عالية وتصدر لأكثر من ٧٠ دولة، والأجهزه الكهربائية المستوردة هى مجرد مثال متكرر لحجم السلع المستوردة الهائل والمهول والمتشعب والمتكاثر التى تدخل مصر. إذا كنا نريد فعلا التخلص من عبودية الدولار فيجب أن نبدأ فى ترشيد حاد للواردات لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وهنا أقصد الجميع حكومة وأهالى. ليس عيبا أن تؤثر علينا الحرب الروسية التى هزت اقتصاديات كبرى مثل أمريكا وأوروبا، وليس عيبا أن نقرر وقف تنفيذ بعض المشروعات من طرق ومدن حتى تنتهى الأزمة وتوابعها، وأن نعلن ذلك بوضوح تام، وإذا اتخذنا قرارا شجاعا بترشيد الاستيراد فنحن سنضيف أكثر من ١٠ مليارات دولار فى عام واحد.

 

بالطبع لم نعتمد على ترشيد الواردات التى توفر أكثر مليارات الدولارات فقط، ولكن مصر لديها قوى وقدرات ذاتية قادرة على منحنا كنزًا من الدولارات لولا (طفاسة) وزارة المالية.لدينا أكثر ١٢ مليون مصرى يعملون بالخارج، والجميع حكومة وأهالى يعلمون أن أخطر مشاكل المغتربين تتمثل فى أزمة الجمارك.لأن المغتربين لا يتم إعفاء سياراتهم من الجمارك، وذلك الوضع يؤدى إلى خسائر كبرى للمغتربين. أولى المشاكل أنه يعرضه للخسارة عند بيع سيارته وهو عائد للوطن لأنه مضطر لبيعها بأى ثمن، أما ثانى المشاكل أن المغترب لا يستطيع شراء سيارة فاخرة مثل باقى الجنسيات لأنه سيخسر فى حالة بيعها، ولذلك يضطر مهما كان منصبه إلى شراء سيارة صغيرة لا تليق بمكانته، وطالب المغتربين آلاف المرات بإعفاء سيارة واحدة عند العودة من الجمارك دون شروط زمنية أو فنية، ولو كنت من وزير المالية لسارعت فورا بتلبية مطلب المغتربين فى الخارج، وذلك مقابل وديعة دولارية ٢٠٠٠ دولار لمدة ثلاث أو خمس سنوات، لو استجاب نصف المصريين العاملين بالخارج لحصدنا على الفور ١٤ مليار دولار، وذلك الرقم يمثل ضعف قرض صندوق النقد الذى تتفاوض عليه الحكومة. وهكذا تستفيد الحكومة والمغتربون معا.

وهناك نوع آخر من المغتربين العرب الذين يعيشون فى مصر منذ سنوات، ولا أعرف سر عدم تفعيل الإقامة الذهبية أو مصر الجنسية للعرب المقيمين فى مصر خاصة الليبيين والسوريين والعراقيين الذين استقروا فى مصر ولهم استثماراتهم وأعمالهم بل ويشغلون مصريين فى محلاتهم ومصانعهم، وبحسب أحدث تقرير لمنظمة الهجرة الدولية فإن السوريين استثمروا مليار دولار فى مصر، ومنح إقامات ذهبية أو جنسية لهؤلاء المغتربين فى مصر مقابل مبلغ من المال على ألا تقل الإقامة عن خمس سنوات يوفر لمصر مليارات الدولارات الفورية، حسب بعض التقديرات فإن الإقامة الذهبية والجنسية يمكن أن توفر نحو ٧ مليارات دولار على الأقل. لأن عدد العرب والأجانب المقيمين فى مصر تجاوز الـ٩ ملايين حسب آخر تقارير منظمة الهجرة الدولية، فالتجارب الدولية والعربية شهدت نجاحا لمثل هذه المبادرات.

 

فى الأزمات الكبرى نحتاج بعض التنازلات الاقتصادية والمالية، وإذا كنا نعانى بسبب الحرب الأوكرانية من أزمة فى توفير الدولار، فلدينا أبواب للاستثمار الأجنبى المباشر تدعم حصيلة الدولار من ناحية، وتزيد من فرص العمل من ناحية أخرى، وذلك دون أن نخسر شبرًا من أرضنا أو أسهم شركاتنا، وذلك من خلال تقديم تسهيلات ومزايا فى طرح امتياز التنقيب عن الذهب والمعادن فى مصر.رغم الأزمة العالمية وتوتر الأعمال فى العالم كله لا يزال للذهب والمعادن بريق هائل فى البورصة وفى الاستثمار المباشر، ولذلك يجب انتهاز الفرصة لطرح عقود امتياز فى التنقيب عن الذهب ولو كانت أسعار مقابل العقود أقل من المستوى العالمى أو السعر الذى كانت الحكومة تنتظره.لأن السعر الحقيقى لأى سلعة أو خدمة يتعلق بالمناخ السائد أو بالأحرى ظروف السوق إلى حد كبير، ومن ناحية أخرى فإننى أدعو وزير المالية الدكتور محمد معيط إلى التفكير خارج الصندوق لجذب المزيد من مليارات الدولارات للخزانة المصرية.على سبيل المثال فإن بعض الخبراء يتحدثون عن إتاحة الفرصة للمصريين للاستثمار فى الصكوك السيادية المزعم طرحها للمستثمرين الراغبين فى الاستثمار بما يتفق مع الشريعة الإسلامية، يشير هؤلاء الخبراء إلى ما يبرر ذلك الاقتراح غير التقليدى، فحصيلة الدولار بالبنوك التى تخص الأفراد أو القطاع العائلى تجاوزت الـ٤٠ مليار دولار، ولذلك يمكن توقع أن قطاعا من المواطنين حائزى هذه المليارات من الدولارات قد يرغب فى الاستثمار فى الصكوك السيادية، وبدلا من استهداف ٢ مليار دولار حسب تصريحات وزير المالية يمكن استهداف ٤ أو ٥ مليارات دولار من المصريين.

 

كل ما سبق من اقتراحات واقعية جدا وفورية جدا ليست سوى مجرد نماذج لأننا قادرون على تجاوز أى أزمة بالقوى والقدرات الذاتية التى نتجاهلها نتيجة التركيز على الحلول الخارجية، ولكن الأهم فى قضية الدولار من وجهة نظرى هو الكف عن التعامل مع الدولار كلغز مرة ولعنة مصر أخرى. الدولار سلعة إذا أردت خفض سعرها عليك من تخفيض الطلب عليها. أما أن يتحول ملايين المصريين إلى تجار عملة ومضاربين على الدولار، وملايين من المصريين لتجار شنطة لبيع السلع المستوردة الردىء منها والجيد. ثم يشكون من زيادة سعر الدولار فهذا منطق أهوج ومجاف لكل القوانين الاقتصادية، ولا يوجد دولة واحدة فى العالم بنت نفسها فى ظل انفتاح أو بالأحرى انفلات فى رصيدها من الاحتياطى الدولارى مرة باستيراد السلع التى لها بديل أو يمكن الاستغتاء عنها، وزيادة إيرادات قناة السويس أو تحويلات المصريين بالخارج يجب أن تذهب مباشرة إلى عملية البناء واستيراد السلع الاستراتيجية (قمح وغيره من السلع الغذائية) وأدوية ومستلزمات إنتاج، ومنذ أكثر من سبعين عاما تمكنت مصر من بناء أكثر من ٣٥٠ مصنعًا وجامعات ومستشفيات وبناء السد العالى فى ظل أزمة العملات الأجنبية، ولكنها فعلت ذلك من خلال ترشيد حاسم فى إنفاق العملة سواء من خلال الاستيراد أو حتى السفر للخارج. يجب أن تنتهى العشوائية والفوضى فى التعامل أو بالأحرى إهدار حصيلة مصر من العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار.