د. رشا سمير تكتب: ولازالت معكم «شيرين أبو عاقلة» من قلب فلسطين العربية

مقالات الرأي

د. رشا سمير
د. رشا سمير

هل يمكن أن تُصبح الكلمة طلقة حبر تقتل وتروع؟ كيف يمكن أن يُصبح الموقف الشجاع سيفا يطيح برقاب الظالمين؟ ومتى يمكن أن يتحول الصحفى إلى جندى على جبهة الحقيقة فلا يتراجع عن كلمة الحق إلا مع أنفاسه الأخيرة؟

نعم.. وألف نعم.. ستبقى للأبد الكلمة طلقة حبر، وصاحب الكلمة جندى..والموقف الشجاع سيف على رقاب الظالمين.

شيرين أبو عاقلة..حرمها القدر من الأب والأم ولكنه منحها ما فقده الكثيرون..الشجاعة!.

شيرين ولدت ورحلت فى القدس العربية، التى قررت منذ أمسكت بالميكروفون أن تدافع عن قضيتها.. القضية التى عاشت أعوامًا هى هم الوطن العربى بأسره ثم تحولت مع مرور الوقت ودخول المصالح إلى.. قضية منسية!.

غطت شيرين أبو عاقلة أحداث الانتفاضة الفلسطينيّة عام 2000، والاجتياح الإسرائيلى لمخيم جنين وطولكرم عام 2002، والعمليات العسكريّة الإسرائيليّة المختلفة التى تعرّض لها قطاع غزة، وكانت أول صحفية عربية يسمح لها بالدخول إلى سجن عسقلان فى عام 2005، حيث أجرت مقابلات مع الأسرى الفلسطينيين الذين صدرت بحقهم أحكام طويلة بالسجن.

فى يوم 11 مايو 2022 ارتدت شيرين الخوذة والسترة الواقية واتجهت بعقيدة راسخة وسط زملائها فى قناة الجزيرة إلى تغطية اقتحام الجيش الإسرائيلى لمخيم جنين، وقفت وفى يدها الميكروفون تبتسم للكاميرا وتنقل صورة فجة للاعتداءات الوحشية التى تتم كل يوم ضد شعب أعزل وسط صمت عالمى مجحف..فجأة انطلقت رصاصة غدر من فوهة بندقية خائنة لتستقر فى عنق شيرين وتنهى حياتها فورا، لكنها لم ولن تنهى مشوارها أبدا، فربما أنهت عملها الصحفى لكنها منحتها شهادة ميلاد لدور أكثر أهمية، بعد أن تحولت شيرين من مجرد مراسل صحفى إلى أيقونة ورمز للكلمة الصادقة وتمثال إنسانى لمهنة لم يتعرض ممتهنيها سوى للمخاطر.

عقب أن أردوها قتيلة بدم بارد، اقتحمت شرطة الاحتلال منزلها فى القدس لتفض التجمع الذى بدا فى محيطه واعتدت بالضربِ على المتضامنين، وهو ما يدل على ضعف المعتدى الصهيونى وكيف أرعبته الكلمة وأربكه حب الناس بالتفافهم حول جسد مسجى!.

أثناء تشييع جنازة الفقيدة يوم الجمعة 13 مايو فى القدس، أوقفت الشرطة الإسرائيلية المشيعين الذين حاولوا حمل نعشها وضربتهم بالهراوات فى مشهد مهيب، وكاد نعشها يسقط على الأرض لولا حرص المشيعين على رفعه فوق الرؤوس.. ويا لهم من ضعفاء أمام إرادة المحبين!.

ذكرنى هذا المشهد بجنازة الشاعر نزار قبانى الذى شيعه الشباب والفتيات بالورود وتجمع الشعب السورى بأسره فى الشرفات بطول المسيرة لكيلومترات طويلة، وسط رعب السلطات السورية التى تربصت بالجنازة والتى تحولت إلى مظاهرة شعبية..

تلك يا سادة هى قوة الكلمة وقيمة الموقف.

لم تُقتل شيرين وحدها، بل أغتيل قبلها كل من كانت الكلمة سلاحه..هكذا رحل ناجى العلى وغسان كنفانى..وهكذا تم إغتيال الصحفية والمدونة «دافنه كاروانا غاليزيا» فى انفجار سيارة مفخخة، وهكذا قُتلت «إفجينا فاسكويز أستوديلو» العاملة بالمحطة الإذاعية ريبورن كوكونوكو بشمال كولومبيا، وتلاها مدير قناة تليفزيونية بأفغانستان هو «شير محمد جحيش».

إن اغتيال شيرين أبو عاقلة وغيرها من مئات الصحفيين والكُتاب حول العالم هى جريمة لم تُرتكب فى حق شخص واحد فحسب، بل فى حق حرية التعبير والإعلام، أما الطلقة التى اخترقت جسد إحداهما فهى ليست إلا وسام ناله القتيل وشهادة تقدير لمهنة لولاها لأصبحت الحرية أرملة تتشح بالسواد ما تبقى من عمرها!.

تحية للشهيدة شيرين أبو عاقلة التى نسى كل المختلين عقليا أنها رمز للحرية وراحوا ينبشون وراء ديانتها للموافقة على منحها لقب شهيدة..رحمة الله واسعة يا سادة وتجوز على كل من أشهر سيفه فى وجه الظلم سواء نجح فى تغيير الواقع أم فتح الباب للمتطوعين من بعده.

رحمة الله على السيدة التى دافعت عن قضية فلسطين بميكروفون ولسان صدق، ورحم الله كل أصحاب الكلمة الذين رحلوا وفى قلوبهم عقيدة..ورحم الله أيضا أصحاب المصالح الذين وضعوا أيديهم فى أيدى العدو الصهيونى المعتدى..

لن أقول: «وكانت معكم شيرين أبو عاقلة».. بل سأقول: «وستبقى معكم شيرين أبو عاقلة من قلب فلسطين العربية»

شاء من شاء وأبى من أبى!.