بطرس دانيال يكتب: سماء... ليلة... نهار

مقالات الرأي




«الشعبُ السالكُ فى الظلمة أبصرَ نُوراً عظيماً، والمقيمون فى أرضِ ظلال الموتِ أَضَاءَ عَلَيهمْ نُورٌ» (أشعياء ٩:٢). تأتى أعياد الميلاد والعام الجديد مُلبَّدة بسحابة ڤيروس كورونا المستجد، حتى أننا لم نشعر بهذه الاحتفالات كما فى الأعوام الماضية، ولكن هذا لا يمنعنا أن نخرج دائماً بدرسٍ عظيم يساعدنا على النضج روحياً وإنسانياً واجتماعياً. مما لا شك فيه أنه لا توجد مناسبة ألهمت العديد من الأدباء والشعراء والموسيقيين حول العالم للكتابة والتأليف عنها، مثل أعياد الميلاد والعام الجديد، وتُجسّد هذه الروايات القيم النبيلة والمعانى الفريدة مثل السلام والحُب والصداقة والغفران والصدقة والسخاء، كما أنها تُظهر تجنّب أخطاء الماضى والبدء من جديد. ونجد الحديث فى هذا المجال عن الأجواء المبهجة أو الأجواء الحزينة، والتجمعات الأسرية حول شجرة الميلاد التى تكسوها الزينة وهدايا سانتا كلوز وغير ذلك.. وتحكى رواية «ترنيمة عيد الميلاد» للكاتب العظيم تشارلز ديكنز ١٨٤٣ والتى تحوّلت لأكثر من عمل سينمائى ومسرحى وغنائى عن العجوز «سكروج» البخيل الذى يهتم بعلمه وكنز المال فقط، ولا تعنيه مشاعر الآخرين، ولكن حياته تتبدل عندما زاره شبح شريكه المتوفى «مارلى» مكبلاً بالحديد، والذى ندم على تصرفاته، محذراً إياه من الطريق الذى يسلكه، كاشفاً له أن ثلاثة أشباح سيزورونه ليلة عيد الميلاد، يمثلّون الماضى والحاضر والمستقبل من أجل منحه الفرصة لتغيير نفسه، وهذا ما تم بالفعل عندما تحوّل العجوز البخيل بعد زيارة الأشباح إلى شخصٍ كريم ولطيف نتيجة الموعظة التى قدموها له. ونحن بماذا نخرج من الأعياد، هل نكتفى بالاحتفالات الخارجية فقط؟ هناك ثلاث علامات تصطحب عيد الميلاد، نستطيع تأملها والتعلّم منها:

أ- سماء: جميعنا مدعو لرفع عينيه إلى فوق، لأننا نعيش اليوم فى عالمٍ كل شيء فيه هش: السلام والمال والأزواج والصحة والعمل، حتى الإيمان أصبح مذبذباً. إن الأرض التى نقف عليها لا تستطيع أن تمنحنا دائماً الصفاء والسكينة. لذلك يعود إلينا عيد الميلاد ليس كأسطورة؛ ولكن إجابةٍ على معاناة البشرية، يلوح فى السماء نور ونجم ولحن وبداية جديدة. ولكن الإنسان الذى لا يجد مكاناً للعذراء مريم والقديس يوسف والطفل يسوع، يغرق فى الوحل. نحن حجبنا السماء بالأنوار المصطنعة حتى أصبحت المدن التى نعيش فيها بدون سماء، كما أن البعض لم يعد يشعر بوجود الله فى حياته، ولا يستطيع سماع صوت الملائكة، لذلك نحن فى أمس الحاجة لرفع أنظارنا نحو السماء، ونبحث عن النجم الذى يقود حياتنا ومسيرتنا. لقد اختار السيد المسيح طريق البساطة والتواضع فى ميلاده، ليعلمنا أن نكف عن الصراعات والحروب من أجل البقاء.

ب- ليلة: إنها ليلة مقدسة للسهر والصلاة. ما من شك فى أن كل شخصٍ يظل ساهراً عندما ينتظر إنساناً عزيزاً عليه، أو خبراً حاسماً يهتم بأمره «الشعب السالك فى الظلمة، أبصر نوراً عظيماً...» نحن محاطون بالظلام سواء بداخلنا أو خارجنا، حتى أن عيوننا تعوّدت على رؤية ظلام الخطيئة وظلال التهاون فى محيطٍ تتلألأ فيه الأضواء المزيفة. لذلك نحن بحاجةٍ ماسة إلى النور الحقيقى والصمت العميق لسماع كلمة الله التى تساعدنا على التحلى بالحكمة، وبذلك نستطيع أن نستمع لصراخ الأبرياء وصوت الأبرار، وبهذا نستعيد بين أيدينا تاريخنا الشخصى والعائلى والاجتماعى والديني. نجد فى تلك الليلة قليلاً من الرعاة المهمّشين فى المجتمع، الذين ضحّوا من أجل يسوع الطفل؛ بينما الجميع كانوا منشغلين ومشتتين. للأسف كثيرون هم الذين فقدوا سماع الكلمة الحقيقي، كما أنهم وجدوا صعوبة فى فهم معنى الغنى الحقيقى لحياتهم، ولم يتعلّموا أن السيد المسيح هو السلام الذى لا ثمن له.

ج- نهار: لا يوجد ليل بدون نهار، ولا طريق بدون هدف، ولا توجد آلام بدون ميلاد، كما أنه لا يوجد زرع بلا حصاد. إذاً كل شخصٍ منّا يستطيع أن يقرر هذا العام أن يكون أو لا يكون عيد الميلاد فى حياته. وهنا يعلّمنا يسوع الطفل قائلاً: لقد وُلدتُ فقيراً عرياناً حتى تستطيع أنت أن تتعرى من ذاتك، معتبراً إياى الغنى الحقيقي. وُلدتُ فى مغارة للبهائم حتى تستطيع أنت تقديس كل مكانٍ تطأه قدماك. وُلدتُ فى مذودٍ فقير لتفهم جيداً أننى فى متناول الجميع. وُلدتُ ليلاً حتى تؤمن بأننى أستطيع أن أُنير كل واقع. وُلدتُ فى البساطة، حتى تكف عن الشعور بأنك منبوذ ومضطهد. كل عيد ميلاد وجميعنا بخير وسلام ومحبة وصحة وتفاؤل، طالباً من الله أن يحمل هذا العيد كل ما هو صالح ونافع للبشرية جمعاء.