دموع الحرية فى وداع وحيد حامد

العدد الأسبوعي

بوابة الفجر


فوجئت به فى «روز اليوسف» لينشر مقاله الأول عن حادث اغتيال الدكتور فرج فودة بعد ساعات من وفاته 

شاركنا فى كتابة رفضنا لقانون تقييد الصحافة الذى أصدره مبارك وأسامة الباز دعانا لمناقشة كيفية الخروج من أزمة القانون 

كان وراء المعلومات الأولية فى قضية ممدوح الليثى التى فجرتها تحت عنوان «فضيحة على النيل» ودعمنا فى موقفنا رغم أن مصالحه مع الأطراف الأخرى

اختلفت معه حول فيلم «النوم فى العسل» وكاد ما كتبته عن الفيلم يحدث قطيعة بيننا لولا إيمانى أن لكل كاتب هفوة

استعان بكتابى عن سيد قطب فى عدد من مشاهد الجزء الثانى فى مسلسل «الجماعة».. وناقشنى فى دور كيرميت روزفلت

بدا صوته واهنا متحشرجا فى آخر مكالمة جرت بينى وبينه.

وبين الكلمة والكلمة كان وحيد حامد يتوقف لالتقاط أنفاسه.

وبرر ذلك قائلا: لم تعد عضلة القلب قادرة على حمل المزيد من الأعباء بل ربما لم تعد قادرة على حمل نفسها.

ويومها طلب منى توثيق مبادرة الإخوان بقبول جمال مبارك وريثا لحكم مصر بشرط الموافقة على إعلان حزب سياسى لهم.

كنت قد نشرت الخبر مانشيتا بعد أن نسبته إلى صديق مقرب من جمال مبارك يعمل فى شركة هامبيلون للبترول فى مصر.

كان وحيد حامد قد استرد نشاطه فى كتابة الجزء الثالث من مسلسل الجماعة بعد عثرات ما أوقفت تدفقه وساعده على ذلك انتقاله إلى فندق ريتز كارلتون بعد نحو ثلاثين سنة فى فندق الحياة على مائدة تطل على النيل كانت بمثابة مكتبه وصالون استقبال أصحابه ونجومه فلم يكن يقدر على الإبداع فى غرفة مغلقة بعيدا عن الناس إلا فى الشديد القوى حين يجبر على إدخال تعديلات على سيناريو فيلم يجرى تصويره.

لم يكن الحديث معه يحتاج إلى مناسبة ولكن فى المكالمة الأخيرة كان لها سبب: تهنئته بتكريم مهرجان القاهرة السينمائى.

لكن ما أن رأيته يصعد إلى المسرح بصعوبة ويتحدث بصعوبة ويتحرك بصعوبة حتى أدركت أن الكورونا باعدت بيننا طويلا.

وحيد حامد الذى أعرفه ليس هو وحيد حامد الذى خرج علينا ليلتها.

يقرأ من ورقة رغم ما عرف عنه من طلاقة فى اللسان ويتكئ على عصا رغم حركته التى كانت لا تهدأ وينسى أسماء رغم ذاكرته التى كانت مثار حسدنا.

ولم يكن غريبا أن تنساب الدموع غصبا عن نجمات السينما اللاتى يعرفن قدره: يسرا وإلهام شاهين وليلى علوى ومنى زكى ولبلبة وأمينة خليل ونيرمين الفقى.

كان ذلك المشهد الأخير مؤثرا مؤلما رغم جلالته وروعته لكنها طبيعة الدراما المتناقضة التى عودنا عليها وحيد حامد.

كنت أطمئن على يسرا بعد إصابتها بالكورونا عندما عرفت منها أنه يعانى من أزمة صحية حادة وسارعت بالاتصال به ولكن تليفونه كان مغلقا ويبدو أنه سيظل مغلقا إلى الأبد.

هذه المرة خانه القلب وتوقف عن الحركة بعد أن ظل وحيد حامد يروضه نحو عشرين سنة مرة بالامتناع عن التدخين وأكثر من مرة بدخول غرف الجراحة فى مستشفيات مصرية وألمانية تحت عينى زوجته زينب سويدان مقدمة نشرة الأخبار التى صعدت فى ماسبيرو إلى منصب رئيس التليفزيون ولكن فى المرة الأخيرة كان معها ابنهما المخرج السينمائى مروان.

منذ 28 سنة بالتحديد يوم 9 يونيو 1992 وجدت وحيد حامد أمامى فى «روز اليوسف».. كنت قد توليت مسئولية تحريرها منذ شهور قليلة ولكن جرأتها فى مواجهة التنظيمات الإرهابية المسلحة جعلته يأتى إلينا منفعلا لننشر مقاله الأول عن حادث اغتيال الدكتور فرج فودة بعد ساعات قليلة من وفاته.. عرف من عادل إمام أننا كنا معا على باب حجرة الجراحة فى المستشفى ننتظر نجاة المفكر الجرىء الذى أحرج رموز التفكير الدينى المتطرف ولكن القدر لم ينصفنا وغادرنا المكان صامتين مع لحظات النهار الأولى.

بذلك المقال بدأ وحيد حامد مشوار الكتابة الصحفية التى لم يمارسها من قبل وتناول من خلالها أصعب القضايا وأكثر حساسية وخطورة مثل الفساد والإرهاب والتوريث وتقييد الميديا والأحزاب الهشة والعلاقات السرية لكبار فى نظام مبارك.

ومن يعرفه عن قرب ويواجه معه المواقف السياسية الصعبة يدرك أنه سريع الحماس لكل ما يفيد الوطن مهما كانت خسائره الشخصية.

عندما أصدر مبارك قانون تقييد الصحافة الذى أطلقت عليه: قانون اغتيال الصحافة شاركنا فى رفضه كتابة ولكن ما لا يعرفه كثيرون أنه شاركنا فى تغييره أيضا.

التقى الدكتور أسامة الباز المستشار السياسى لمبارك بنا وحيد حامد وأنا فى القرية النوبية مطعم يطل على النيل كان فى فندق مريديان القاهرة وعلى أطباق شرقية التبولة والممبار والفتوش والكباب والشورمة ناقشنا كيفية الخروج من أزمة القانون الذى تسبب فى انعقاد دائم للجمعية العامة لنقابة الصحفيين وأجبر النقيب إبراهيم نافع على قراءة رسالة من محمد حسنين هيكل وصف فيها السلطة بأنها سلطة شاخت فى مقاعدها.

وعادة ما كنت أبدأ أول يوم فى أسبوع «روز اليوسف» صباح الاثنين بفنجان قهوة أشربه معه فى مكانه المميز على النيل وكثيرا ما استلهمت منه أفكارا لتحقيقات أو حملات صحفية بل إنه كان وراء المعلومات الأولية فى قضية ممدوح الليثى التى فجرتها تحت عنوان «فضيحة على النيل».

كان الليثى بصفته مسئولا عن قطاع الإنتاج فى التليفزيون قد رفض عقاب شيرين سيف النصر على إهمالها فى أحد المسلسلات وفى الوقت نفسه تلقى سيارة مرسيدس هدية من مالك المريديان عبد العزير الإبراهيمى الذى كان على علاقة بالممثلة الشابة.

ودخلت فى معركة قضائية وصحفية وشخصية انتهت بإدانة الليثى فى المحكمة الإدارية العليا ولكن وزير الإعلام وصديقه صفوت الشريف عينه مسئولا عن إنتاج الأفلام السينمائية فى مدينة الإنتاج الإعلامى فيما بعد.

اتخذ وحيد حامد قراره بمساندتنا فى هذه القضية رغم أن مصالحه مع الأطراف الأخرى فهو يحتاج التليفزيون لإنتاج مسلسلاته أو ليعرضها والفندق الذى يستضيفه كل صباح مالكه هو واحد من أبطال القضية كما أن الرئيس مبارك كان على علاقة صداقة مع عائلته المؤثرة.

فى الوقت نفسه عشت مع وحيد حامد أزمات أفلامه السياسية فيلما بعد آخر.

رفضت الرقابة فيلم البرىء الذى قام ببطولته أحمد زكى المجند البرىء الذى يتصور الكتاب والمفكرون والنشطاء أعداء الوطن بدعوى أنه يحرض على العنف خاصة بعد أحداث الأمن المركزى السابقة فالبرىء عندما يصبح واعيا يطلق الرصاص على من ضللوه.

فى قاعة عرض صغيرة فوق سينما ميامى حضرت عرضا خاصا للرقابة فى وجود أبطال الفيلم والدكتور أسامة الباز وكان وجوده كفيلا بتمرير الفيلم مع تعديل النهاية.

وتكرر الموقف نفسه فى فيلم كشف المستور التى لعبت بطولته نبيلة عبيد.

لكننا اختلفنا حول فيلم النوم فى العسل وكاد ما كتبت عن الفيلم يحدث قطيعة بيننا لولا إيمانى بأن لكل حصان كبوة ولكل كاتب هفوة.

تقوم فكرة الفيلم على تفشى العجز الجنسى بين الرجال بسبب القهر الذى يتعرضون له فى الحياة العامة ولكن الفيلم يضع علاج الحالة فى يد واحد ممن تسببوا فيها.

وهنا انفجر الخلاف بيننا وما أفزعنى رد فعل وحيد حامد الذى وصل فى حوارى معه إلى قمة الغضب.

وعندما قلت له: ترى هل نحن صحيح نتحمس للديمقراطية وحرية التعبير إلى أن تمسنا؟.

هنا هدأ وفهم ما أقصد وعادت علاقتنا سمنا على عسل.

وعندما تكاتفت كل القوى الداخلية والخارجية للقضاء على تجربة «روزاليوسف» كان لابد من قنابل دخان لتغطية عملية الاغتيال وراحت أقلام بعينها تصفنا بالصحافة الصفراء حتى تبرر ذبحنا وهنا تدخل وحيد حامد ينصفنا وكان معه هالة سرحان وعاصم حنفى ومحمود التهامى وأسامة الباز الذى أصر على تكريمى فى حفل خاص أقيم فى فندق شيراتون الجزيرة سوفتيل فيما بعد حضره رموز الفكر والفن والصحافة كان على رأسهم وحيد حامد.

وعندما قدم الجزء الثانى من مسلسل الجماعة استعان بكتابى عن سيد قطب فى كثير من المشاهد ومنها مشاهد يبدو فيها سيد قطب وهو يتحدث إلى جمال عبد الناصر وبعض رفاقه من الضباط الأحرار من منصة الأستاذ والمعلم وأشار إلى المصدر فى نهاية كل حلقة.

وغضب محبو عبد الناصر وكارهو سيد قطب من تلك المشاهد وشككوا فى وجودها تاريخيا ولكننى خرجت شرحت الحقيقة فى حوار تليفزيونى مع لميس الحديدى قائلا:

إن قطب قبل أن يجن بالتطرف كان مفكرا إسلاميا معتدلا الكثير من الكتب منها العدالة الاجتماعية فى الإسلام الذى منعته الرقابة الملكية على المطبوعات وإن حمل إحسان عبد القدوس نسخة منه إلى عبد الناصر.

إننا لا نحكم على التاريخ من نهاية الحدث وإنما من بدايته ولكنه الجهل العام والتعصب الأعمى الذى يزيد من العتمة أمام الحقيقة.

وخلال تنفيذ المسلسل ناقشنى وحيد حامد فى دور كيرميت روزفلت مدير مكتب الشرق الأوسط فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فى خمسينيات القرن الماضى الذى أعاد شاه إيران إلى عرشه فى ذلك الوقت وعلاقته بتنظيم الجماعة بعد تصفيتها فى أعقاب محاولة اغتيال عبد الناصر فى ميدان المنشية ولكن بعضا مما قلت موثقا لم يذكره وحيد حامد وعندما نبهته وعد بالتدخل بواسطة المونتاج لتصحيح ما أخطأ فيه.

إن وحيد حامد الشاب الريفى القادم من منيا القمح محافظة الشرقية إلى القاهرة لدراسة علم الاجتماع لم يكن يحمل فى جيبه سوى طموحه وموهبته التى لم يبخل عليها بثقافة سياسية وأدبية سهل الحصول عليها من المكتبات العامة فحدد مواقفه من الحياة.

وعندما نصحه يوسف إدريس بأن يتجه إلى الدراما بعد نشر مجموعته القصصية الأولى: القمر يقتل عاشقه فاتجه إلى الإذاعة ليصبح عجينة طيعة فى يد مخرجها مصطفى أبو حطب الذى لم ينس اسمه فى خطاب تكريمه.

وحتى كف قلبه عن الحياة لم يكف وحيد حامد عن التعبير عن نفسه لذلك بقى منه الكثير الذى يدخله موسوعة المبدعين الخالدين.