د. رشا سمير تكتب: واحة الهروب.. حلم رجل وهوية قبيلة

مقالات الرأي




ذهب إليها ليلقى بهمومه بين ذراعيها، باحثا عن السكون فى واحة النخيل، هكذا اختار بصدق أن يحترم الطبيعة ويقدس خصوصيتها ويسكن تفاصيل كل شىء جميل.. يرى الجمال بعين الحاضر، محاولا الحفاظ على ما تبقى من حكايات الماضى التى رواها تاريخ مصر فى صورة آثار ونصوص انحنى لها العالم إجلالا وتقديرا.

رجل اختار أن يعمل لحماية الهوية المصرية متأملا رونق الحياة فى التفاصيل الصغيرة..

فى لحظة ما وسط روتين العمل وفى خضم استنزاف صحته النفسية فى أيام تتعاقب دون جدوى، شعر بالسأم، فاختار أن يرحل وأن يهرب، باحثا عن الهدوء فى تلك الواحة البعيدة.. واحة سيوة.. التى أصبحت فيما بعد مرساه ونبض قلبه.

من بين خيوط الشمس وهى تغيب رسم لها فى خياله ألف صورة، وكلما تعقب رمال الصحراء كلما لاح له فى الأفق حلم كبير.. وهو حلم إعادة إحياء تراث تلك الواحة الساحرة.

وكما طرق الإسكندر يوما باب كهنة معبد الوحى باحثا عن الغيب فى تكهناتهم.. طرق «منير نعمة الله» باب بيوت البسطاء من أبناء قبائل السيويين باحثا عن هويتهم وحكاياهم.

1حلم رجل وهوية مكان

إذا كانت التنمية المستدامة سوف يكون لها مستقبل لابد أن تكون ضمن ثقافة المستهلك والمنتج.. لابد أن تكون متناغمة مع هذا المبدأ.

تلك الكلمات هى التى بدأ بها منير نعمة الله مؤسس ورئيس شركة «نوعية البيئة الدولية للاستثمارات التنموية» حواره معى.

كانت البداية فكرة إنشاء مكتب استشارى للدراسات الاجتماعية والبيئية لهيئات المعونة المختلفة.. لتقديم مجموعة مبادرات خاصة بالحفاظ على جمال مصر ورونقها.

كان التفكير باتجاه سيناء، وبالفعل كانت هناك مشاريع كثيرة فى سيناء فى بداية الثمانينيات.

ومع ظهور فكرة زيارة سيوة، قرر أن يطرق بابًا أكثر رحابة، فقد أذهله الهدوء وخطفته السكينة.. فقرر أن يبنى فنادق تتماشى مع بساطة وسحر المكان، فنادق لها طابع خاص، أسرة مبنية من الملح، أسقف مبنية من جذع النخل، حياة بسيطة بلا كهرباء ولا تليفزيون، تعتمد على الشموع التى تتوسط شمعدانات الملح القادم من البحيرات القريبة.. واليوم أصبحت فنادق (أدرير أميلال) و(كنوز شالي) و(الباب إنشال) عنوانًا حقيقيًا لسيوة.

هكذا مدت الحكومة يدها لتعمل يد بيد مع منير نعمة الله فى بعض المشاريع المهمة التى أفادت أهل الواحة مثل ترميم جبل الدكرور الذى تقام فيه الاحتفالات السنوية التى يجتمع فيها كل رؤساء القبائل، ثم إنشاء مبنى البنك وهو يعد من الخدمات المهمة لأهل الواحة، وإنشاء محطة أتوبيس لخدمة الأهالى، وبعدهما اتجهت السواعد لترميم الجامع العتيق، وبالاشتراك مع المركز الثقافى البريطانى تم ترميم جامع تطندى الأثرى (البير التحتانى).

2ترميم قلعة شالى

ساقتنى أقدارى لحضور حفل افتتاح ترميم قلعة شالى.. الحصن الذى سكنه أبناء سيوة فى القرن الماضى للحفاظ على هويتهم.

هكذا بدأ المشروع وكان لابد من اتحاد عناصر المجتمع المدنى والحكومة، الحقيقة أن الحكومة ووزارة الآثار متمثلة فى معالى الدكتور خالد العنانى، قدمت لهم الكثير من العون ولم تعرقل الحُلم بل دعمته وكبرته.. هذا بحسب ما صرح به المهندسان المشرفان على المشروع، المهندس عماد فريد والمهندس رامز عزمى، اللذان تابعا كل تفاصيل الترميم وشاركا أيضا فى تصميم وبناء الفنادق المختلفة، وهما بدون أى مجاملات الدينامو وراء هذا الحدث.. والأجمل من وجهة نظرى أنهما أصبحا جزءًا من الواحة، يشبهان أهلها ويتكلمان لغتهم، فهما يعرفان الجميع ويعرفهم الجميع، فيعاملهما أبناء البلد وكأنهما الأب الروحى للمشروع ولهم. استطاع منير نعمة الله أن يحصل على دعم مادى قدره 600 ألف يورو من الاتحاد الأوروبى للمساهمة فى ترميم قلعة شالى ومسجد أغورمى.. كان لى شرف حضور هذا الافتتاح العظيم بحضور وزراء الآثار والتعاون الدولى والبيئة، وبحضور ممثل الاتحاد الأوروبى و20 سفيرا من سفراء دول العالم بالقاهرة..

الحقيقة أن الافتتاح جاء مشرفا وانعكاسًا بسيطًا ورائعًا لثقافة هذا المكان الساحر الذى يتميز أهله بالبساطة والجمال.

3السفراء ووجه مصر

حضر الاحتفال مجموعة من السفراء مثل سفير أنجولا، أستراليا، بلجيكا، البرازيل، شيلى، كولومبيا، فرنسا، ألمانيا، إيرلندا، إيطاليا، اليابان، الأردن، لاتفيا، نيوزلندا، بولندا، البرتغال، إسبانيا، السويد، تايلاند، والولايات المتحدة الأمريكية.. الذين أشادوا بالحدث والمجهود الذى قام به المهندسون والعاملون فى المشروع، وبكل شاب وشابة ساهموا فى إحياء هذا التراث المهم..

لا يفوتنى هنا أن أشيد بالشابات اللاتى يعملن فى مكتب دكتور منير نعمة الله، اللائى يعملن مثل خلية النحل ليل نهار وكأن الحدث مولود ينتظرن وصوله بفارغ الصبر لمنحه المزيد من الرعاية.

قالت سفيرة البرتغال لى عقب سؤالى لها عن رأيها: «حدث متكامل لا ينقصه شىء.. سحر».

كما أشاد سفير إيرلندا بالمجهود الكبير وتمنى لو أن السياحة أصبحت عنوانًا أكبر لهذا المكان.

4شيوخ القبائل

شيوخ قبائل سيوة كانوا أصحاب الظهور الأكبر فى الحدث، وعلى رأسهم الشيخ عمر راجح شيخ قبيلة أولاد موسى والمتحدث اللبق بلسان القبائل، الرجل الذى يتحدث بصدق لكونه حلقة الوصل دائما بين أبناء سيوة والحكومة، فى محاولات جادة لإيصال وجهات نظرهم ومشاكلهم.

ولا يفوتنى ذكر الشيخ سليمان عبد الله، رئيس جمعية أبناء سيوة الذى كان موجودا بقوة وسط الحدث.. والشاب النشيط مصطفى يوسف شالى وهو من أهم تجار البلح فى سيوة أبا عن جد.

فكرة إنشاء وحدة صحية فى قلب القلعة أيضا لصحة الأم والطفل هى فكرة تستحق الإشادة والدعم لأنها فكرة إنسانية عظيمة ومبادرة جيدة لخدمة أهالى الواحة.

5سلامة.. حدوتة سيوية

ملامحه مصرية بامتياز.. بشرة يشوبها سُمرة النيل حين تلوحه شمس مصر الأصيلة، قلب ينبض بالبساطة وعقل قادر على إعطاء النصيحة بصدق وحكمة..

يستقبلك بابتسامة ويتركك وابتسامته لا تفارق مخيلتك أبدا.. أتذكر كلماته كلما جلست بمفردى وابتسم..

اسمه.. سلامة عثمان، عمدة منطقة وفندق (الباب إنشال)، يقف تحت اليافطة التى تحمل اسمه بكل فخر ويبتسم قائلا: هذا هو ((كافيه سلامة))..

يدير فندق (الباب إنشال)، تحدثت إليه عن مشروع ترميم شالى، فأجابنى بكل فخر أن دكتور منير له كل الفضل فى إعادة الحياة للمنطقة وفتح أبواب عمل لعشرات الرجال والشباب ممن أصبحوا يعملون فى فنادقه، وتحدث عن ترميم القلعة وكأنه حلم يحمل هوية السيويين وتاريخهم الذين افتخروا به.

6نائبة المرأة

شاء القدر أن التقيها صدفة.. سيدة هادئة الملامح متقدة الذهن، تحاول أن تجد لنفسها مكانا وسط مجتمع ذكورى لا يفسح للمرأة مكانا.. طلبت أن أقابلها لأستمع إليها، فدعتنى بكل الترحاب إلى بيتها.. وفتحت لى باب قلبها بكل الود.. نائبة مجلس الشعب عن سيوة الأستاذة فتحية السنوسى..

التحقت بالمدرسة الثانوى فى مطروح حين كانت المسافة وقتها من سيوة لمطروح 16 ساعة.. دخلت دار المعلمات، ثم عادت إلى سيوة كى تعمل معلمة فى المدرسة عام 1978.. لم تتخل يوما عن الزى أو تقاليد السيدات هناك لأنها تحترم تاريخها.

كرست حياتها فى محاولة للنهوض بنساء وفتيات سيوة، تجلس معهن وتدفعن للتعليم والسعى وراء أحلامهن..

تضحك وهى تقول لى: «هنا الفتيات يطلقون على المطبخ (صطاح طابنت) لقب «مدفن المرأة» لأنه يحكم حتى على المتعلمات بالبقاء داخله للأبد.. ودائما ما أقول لهم، لا بأس من أن تكون الفتاة المتعلمة سيدة بيتها ومطبخها، فهذا ليس عيبا

بعد خروجها على المعاش قررت أن تقوم بعمل تطوعى لتدريب المعلمات ونقل خبرتها إليهن.

وعندما أشاد أهل البلدة بنشاطها أقنعها أحد أقاربها بدخول مجلس الشعب لكى تصبح صوت المرأة السيوية تحت قبة البرلمان..

وأنا من مكانى أتمنى لها كل التوفيق وأتمنى ألا تنجرف خلف الدوافع الشخصية التى أصبحت الطابع الغالب لكل من يسعى لمقعد برلمانى.. لأنها حقا سيدة مُشرفة وحقيقية.

7#شالى_تقرأ

شعورى بالحب والمسئولية تجاه هذه الأرض التى وقعت فى غرامها، دفعنى للحوار مع د.منير وطرح فكرة طرأت ببالى وراقت له بشدة فقرر تبنيها على الفور..

قلت له أننى لم ألمح مكتبة واحدة طوال فترة وجودى بسيوة.. وإيمانى الراسخ هو أن الثقافة هى واجهة الارتقاء لأى مكان.. والجميل أن نهتم بصحة ووعى أبناء الواحة، ولكن الأجمل أن نهتم بتشكيل وعيهم الثقافى، حتى وإن كانت المبادرات فردية، وسأصبح أنا المسئولة عن تحقيقها.

كانت مبادرتى هى إنشاء مكتبة فى قلب القلعة بها عناوين تهم الشباب والأطفال والمرأة، وعمل فعاليات ثقافية بها.. وتعهدت بالتواصل مع دور النشر المختلفة للتبرع بالكتب لدعم هذه المبادرة، وهو ما تحمس له د. منير وأشاد بفكرتى وطلب منى المبادرة على الفور بتحويلها إلى واقع..

ومن هنا أطلقت عليها عنوان #شالى_تقرأ.

وستكون أول رواية على أرفف المكتبة هى رائعة أستاذنا المبدع بهاء طاهر (واحة الغروب).

8- وداعا أرض السحر

أستدير لأترك هذا المكان الساحر وأعود إلى صخب القاهرة وضجيجها، وفى قلبى حزن للفراق وألف أمنية للأرض الطيبة وشعبها الجميل..

من كل قلبى أدعو المسئولين أن يهتموا بالطريق بين سيوة ومطروح.. ولأنى أرى أن هناك مبادرات بتطوير المنطقة، أتمنى أن يحافظ المسئولون عن هذا التطوير على طابعها البسيط ومظهرها القديم دون دخول التطوير العمرانى القبيح ليخل بسحر المكان ويُذهبه..

الحفاظ على بساطة المكان هو عنوان حقيقى لأن تظل هذه الواحة للأبد هى واحة الهروب.