حسن إسميك يكتب: بين العقل والبندقية.. تأملات في صراع الإخوة الأعداء

مقالات الرأي

بوابة الفجر


أعزائي القراء، هذه المقالة (نقلا عن النهار العربي) تختلف عن سابقاتها، لأنني أكتبها بشيء من التأمل الباطني الفردي، تأمل إنسان عربي حمل طوال حياته آمال وطن لم يعشه حتى الآن وأحلامه، أعاين فيه الطريق الذي سلكت، فأتوقف عند محطات كثيرة، أُحنُّ إلى البعض منها، لا سيما تلك التي تركتها خلفي أثناء فترات الطفولة والمراهقة وبدايات الشباب، وأغضب من بعضها الآخر… أو ربما أضحك أحياناً.
 
وأنا هنا لا أكتب عن تجربة شخصية، وليس لعرض معاناة فردية أكسب منها تعاطفاً وجدانياً من الآخرين، برغم حاجتنا دوماً لمثل هذا التعاطف؛ بل أكتب عن واقع أليم عايشته وعرفته عن كثب، لكثر من العرب، سواء أكانوا أكبر مني أم أصغر سناً، فالأعمار هنا لا تُقاس إلا بمرارة التجارب وشقاوة الحياة وتعاستها.
 
حدود هذا الوطن الكبير الذي يُسمى بـ"العربي"، حفظتها منذ كنت طفلاً في المدرسة أردد مع أقراني: 

بلاد العرب أوطاني/ من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن/ إلى مصر فتطوان
 
 وفيه يولد العرب من أم واحدة، لكنهم يتربون كالإخوة الأعداء، فالحضارة والثقافة واللغة والدين والحرف المنطوق على اختلاف اللهجات، هي كلها تركة أمتنا العربية التي رضعناها من ثدي واحد. كبرنا عليه قبل أن يتكبر علينا، عندما تناسينا ما يجمعنا والتفتنا الى ما يفرّقنا.
 
وأن تكون عربياً، عزيزي القارئ، يعني أن تولد طفلاً بحجم قضية، وأن تحمل هوية بعنوان "ممزق"، وجواز سفر للانغلاق لا للعبور، فعلى أرض العرب لا يُسمح باللعب إلا بين الخطوط الحمر لا فوقها، ولا يكون التأرجح إلا نحو الأمام أو نحو الخلف. فنحن نولد على يد قابلة "الموقف المسبق" و"الهوية الناجزة"، ويُقطع حبلنا السري بأسنان التعصب وأضراس الفرقة، قبل أن نرتمي في مهد الضياع والآلام... ضياع قضايانا وآلام طريق العبور.
 
أن تكون عربياً يعني أن تقرأ تاريخ الانتصارات والبطولات الأسطورية، بينما تعيش هزائم الواقع وانكساراته.
 
 أن تكون عربياً، يعني أن تستمع لآيات العدل وتنصت لتراتيل المحبة وتصغي لأحاديث الأنبياء وقصصهم حول محاربة الظلمة وتبديد الظُلّام، وأن تحفظها جيداً كي ترويها بصمت، خوفاً من التخوين والاتهام بالعمالة أو الكفر أو الردة، والتهديد بالسجن أو القتل. 
 
أن تكون عربياً، يعني أن تنهل من مصنع الأفكار المسبقة والأحكام القطعية، أي كل ما سيلغي عندك مستقبلاً حرية الفكر وشجاعة إبداء الرأي.
 
 أن تكون عربياً، يعني أيضاً أن تتزوّد بكل ما يمكن أن تضيفه لقوائم الفُصام المعرفي والإنساني والحضاري والتاريخي والسياسي.
 
وأمام كل هذا، ليس مستغرباً أننا نعيش التكرار "بكل سلبياته"، ونمجّد الحلقات المفرغة ونتوارثها من جيل إلى آخر، فلماذا كل هذه الهموم التي تُثقل صدورنا، وإلى متى سنعيش هذا الإحباط وتلك السوداوية؟
 
تكرار الهزائم
 
ولعل السؤال عن السبب، أو الأسباب، التي تجعل حال العربي هكذا، يجد جوابه في نظرة خاطفة إلى واقعنا العربي. فقد شاهدنا فلسطين تُقضم أمام أعيننا، وتعاني هزيمة تلو أخرى وانقساماً فوق آخر، فقررنا أن نضعها جانباً وقد تحوّلت إلى جسد بذراعين مبتورين: "فتح" و"حماس" اللتين باعدت بينهما السياسة والمصالح والتحالفات حتى باتت "المصالحة" بينهما قضيتنا الأولى التي تغصّ بأثوابها المتسخة حبال الغسيل! 
 
وما بين سورية والأردن ولبنان، عبر مقاتلو الفصائل الفلسطينية في الاتجاهات كافة، وتوالدوا كما الفطر، في جو من البرد والعواصف التي لا تهدأ حتى تثور من جديد، فتلوّن خريف "أيلولها" بالأسود وصار معه لون الكوفية "الرمز" باهتاً، فلم نعد نعلم من يقاتل ضد من... ولأجل من! هكذا انتهت البندقية في تونس قبل أن تُكفن بورق أوسلو، وتصمت منذ ذلك الحين.
 
أما عراق صدام فقد أُخذ رهينة بيد "القائد الأوحد"، فحارب به الصديق والجار قبل العدو، حتى بات العراقي "ابن البداوة والشهامة" يقاتل لأجل لقمة العيش، ويستبدل رغيف الخبز بالبرميل تحت مسمى "النفط مقابل الغذاء". ولم ينسَ فخامة "المهيب" الذي حكم شعبه بالحديد والنار، أن يرشق عدوه الإسرائيلي بحفنة من الصواريخ التي تستحق أن توصف بـ"الاستعراضية"، ليس لأنها لم تصب أهدافها، بل لكونها جاءت بعد غزو الكويت لتخفيف حالة الضغط الشعبي والدولي على صدام، الذي كان يعلم علم اليقين أن الأرض لا يمكن أن تُحرر بإطلاق بضعة صواريخ يعقبها صمت مطبق إلى الأبد.
 
وقبل ذلك، كانت القاهرة سياسياً أسيرة صراع المؤسسة العسكرية و"الإخوان"، فيما بقيت فلسطين مجرد مطرقة ومسامير لتثبيت كرسي الحكم هناك، فقد دعم عبد الناصر "قضية العرب الأولى" بالقطارة، في الوقت الذي لم يتوقف قصفه الخطابي لإسرائيل حتى أدماها ضحكاً، قبل أن يجعلنا السادات نترحّم على خطابات عبد الناصر وأوهامه المبثوثة على شكل جرعات أمل لا تنتهي.
 
وعلى جثة وحدتنا مرت القوى الدولية والإقليمية قبل أن تتغلغل في مسام جلودنا، فنجحت إيران في جرنا إلى خطاب المذهبيات المسمومة، وبات سماع كلمات سنّي شيعي مألوفاً في قلوبنا ومطبوعاً في عقولنا. وأدى غياب مفهوم "الهوية"، بمعناها السياسي والوطني أو ضعفه وتشوهه، إلى تنامي استطالات "هوياتية" جديدة أخذت بعض الأحزاب والميليشيات تستعملها لتصنيف الآخرين طوائف وفرقاً، بخطوط جديدة، حمر أو سود، لها لون الدم والعصبية.
 
وأمام ضعف دفاعاتنا البنيوية والفكرية، تمدد اللاعب التركي في كل الأرض العربية، بعدما صدّته أوروبا، فراح ينبش في تراب العرب عن قبور أجداده، علّه يعيد رميم عظام سلاطينه وكراسي ولاته إلى أرض العرب الخصبة مرة أخرى. وعلى طريقة "الأخذ عسكر" التي اتبعها العثمانيون لسوق شباب مستعمراتهم إلى الحرب رغماً عنهم، لم يتوان التركي حالياً عن محاربتنا بعضنا ببعض، فأرسل مرتزقته من بلد عربي ليقاتلوا لأجله في بلد عربي آخر أو  أجنبي (أذربيجان)، وأدخل قواته إلى العراق وسورية، قبل أن يجد طريقه إلى قلب الجغرافية القطرية الضئيلة، مهدداً مع شريك أطماعه الإيراني أمن الخليج العربي ودوله.
 
 
 
ونتيجة لكل هذا، تحولت أرض العرب ساحات للاعبين الكبار، الذين جعلوها مسارح للدمى والعرائس، فحركوا بخيوطهم أيدينا وربطوا ألسنتنا وقيدوا إرادتنا، فقبلنا أدوارنا وسط تصفيق حار لجمهور الغائبين أو المغيبين.
 
وفي خضم هذا الواقع المرير، ورثنا نحن الشعب العربي الكثير الكثير  من عصبية لعبة "الإخوة الأعداء" وقواعدها، فباتت لغة الترهيب والتخوين مستساغة لدينا تجاه كل رأي أو كلمة يخالفان اعتقاداتنا ومفاهيمنا أو آرائنا السياسية، وأضحى شعارنا: "من ليس معي فهو ضدي". هكذا صار كل منا يظن أنه جزيرة منعزلة عن محيطها، متخيلاً أن بوسعه النهوض وحده بمتطلبات الأمة ومتناسياً العلل التي تنهش جسده وأجسادنا جميعاً. بعبارة أخرى، حتى ولو كان بمقدور الطير أن يحلّق بجناح واحد، فكيف يرتفع في الهواء إذا كان جناحاه مريضين واهنين؟ 
 
افتتحت مقالتي هذه بذكر الطموحات والآمال التي أحفظها لهذا الوطن الكبير، ولست أقصد من وراء ما أكتب أو أنشر سوى تبيان الحقيقة، التي أعبّر فيها عن آرائي وآراء شريحة تتسع أو تضيق من الشارع العربي، وسواء كنت أصيب عين الحقيقة أم أحيد عنها، فإن قلمي لم يُعبّر يوماً سوى عن محبتي وإخلاصي لأمتي وشعبي وقضيتي.
 
إن ثورات التحرير الحقيقية لا تكون دوماً بالنار والبارود، بل بالحبر والفكر أيضاً كما تعلمنا تجارب الأمم الأخرى، فالعلاقة بين العقل والبندقية لا تقبل المساومة لجهة مركز القوة والقرار، ومتى أمسكت البندقية بالدفة فالركب ذاهب لا محالة خارج فضاء النضج والدبلوماسية والتروي. 
 
والبندقية هنا تمثل كل ما هو غريزي، وصراع العقل مع الغريزة أزلي، بدأ مع الانسان منذ فتح عينيه على الدنيا ويبقى من الأسئلة التي ستؤرقه إلى يوم الدين. ومن اللافت أن فرويد، عالم النفس النمسوي ونيتشه، فيسلوف القوة الألماني، اعتبرا أن سر أي حدث ومحركه الرئيس هو الغريزة. ولنا في اندفاع راسكولينكوف، بطل رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، لقتل العجوز بوحي من غريزته، مثال بارز على استقالة العقل وتنحيه أمام طغيان الغريزة الآسرة وسطوتها، الأمر الذي لا يترك مجالاً للتدخل بالحدث أو المساهمة في صياغة الأجندة.  
 
ختاماً، أعلن أنني اخترت طريق العقل، وهو الطريق الذي يجعلني على يقين بأن معركتنا العربية الرئيسة هي معركة بناء العقل العربي، القادر على نقل الإنسان فينا إلى مدارك "المعلوم" لا متاهات المجهول، وهو الأمر الذي حقق للغرب نقلته النوعية بعد تاريخ حافل بالصراعات السياسية والعسكرية والدينية، أما البندقية التي لا يزال البعض يتمسك بها بكل غرائزه، فلن تصيب هدفها إن لم يكن خلفها عقل يفكر.