عادل حمودة يكتب: آخر 100 يوم فى حياة محمد فريد خميس

مقالات الرأي



بكتيريا شرسة دمرت عظام الرقبة والأطباء قرروا إجراء جراحتين عاجلتين فى حصار الكورونا نُقل بطائرة إسعاف إلى الولايات المتحدة بموافقة البنتاجون

الداخلية توافق على أن يدفنه ابنه ويسلم نفسه فى اليوم التالى إلى النيابة العامة للتحقيق معه فى قضية الفيرمونت

قدم شالا من الحرير إلى زوجة كارتر بعد أن زارهما فى بيتهما على مشارف أتلانتا 

يمتلك مصانع للسجاد فى أمريكا والصين وبريطانيا وحقق مرتبة متقدمة فى تلك الصناعة

لم يكمل محمد فريد خميس قضاء إجازة عيد الفطر فى قصره الصيفى المطل على لسان الوزراء فى مارينا.. فجأة شعر بألم حاد لم يحتمله.. كأن أسياخا من النار تحرقه.. صرخ بصوت موجوع فهرع مساعدوه وأصحابه إليه.

اتصل الدكتور حماد عبد الله أقدم الأصدقاء وأكثرهم قربا إليه بالدكتور جلال السعيد طالبا التصرف الطبى العاجل.. أمر طبيب القلب الشهير بسرعة نقله إلى دار الفؤاد خشية إصابته بجلطة فى أحد شرايين القلب.

حمله الدكتور حماد عبد الله فى سيارته إلى دار الفؤاد بعد أن اتصل بالدكتور حاتم الجبلى ليكون طاقم طوارئ المستشفى فى انتظاره.

دخل خميس المستشفى على مقعد متحرك لا يقدر على التنقل بدونه بعد أن تآكلت فقرات فى العمود الفقرى حرمته من السير على قدميه وأجبرته على التعامل مع المقعد المتحرك طوال الوقت بل إنه سافر به إلى مدينة هانوفر لحضور المعرض الدولى للسجاد الذى يقام كل يناير هناك ويشارك فيه بجناح مميز يثبت به أنه واحد من أكبر صناع السجاد فى العالم.

كان القلب سليما خاصة بعد أن أجرى خميس جراحة حرجة فيه قبل نحو العام فى مستشفى إيمورى الجامعية فى مدينة أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا.

حدث ذلك فى صيف 2019 حين نقل بطائرة إسعاف أس أو أس إلى هناك متصورا أن متاعبه لا تتجاوز العمود الفقرى حسب تشخيص مستشفى فى القاهرة عالجه بحقن مسكنة ولكن ما إن انتهى أطباء إيمورى من الفحوصات الأولية حتى أطلقوا جرس إنذار حاد ليجبروه على إجراء جراحة عاجلة فى القلب والشرايين الرئيسية الموصلة إليه بعد أن تجاوزت حالته حد الخطر بل إن نسبة النجاة لم تكن لتزيد عن خمسين فى المائة إلى جانب الخوف من إصابة أجهزة فى الجسم بالعطب.

على أنه خرج من غرفة العمليات سليما تماما متمتعا بمزيد من العمر وإن بقى عاجزا عن تحريك نصفه السفلى رافضا إجراء جراحة فيه تعيد إليه الحركة حسب ما تعهد طبيب ألمانى متخصص فى متاعب العمود الفقرى.

لم يجد أطباء دار الفؤاد جلطات فى القلب ولكنهم لم يعرفوا سر الألم الشديد الذى يعانى منه واحتاجوا لمزيد من الفحوصات لتحديده.

فى ذلك الوقت كانت حركة الطيران متوقفة بسبب فيروس كورونا لكن الاتصالات التى جرت مع البنتاجون سمحت بطائرة إسعاف تحمل خميس وسمح بدخولها إلى الأجواء الأمريكية والهبوط فى مطار هارتسفيلد جاكسون أو مطار أتلانتا الدولى.

كان اختيار خميس لمدينة أتلانتا ما يبرره.. على بعد ساعة بالسيارة من قلبها تقع مدينة صغيرة تسمى دالتون بنى فيها خميس واحدا من أكبرمصانع السجاد فى الولايات المتحدة.. وبتكرار السفر إلى أتلانتا وجد أن من الأفضل شراء بيت كبير هناك أعفاه هو وأسرته وضيوفه من النزول فى فندق ريتز كارلتون الذى كان يفضله.. وفى أتلانتا أيضا كون صداقات مع أطقم أطباء مستشفى أيمورى من المصريين والعرب فى مختلف التخصصات ليشرفوا على فحوصاته الدورية التى حرص عليها بعد زراعة كلى جديدة فى جسمه قبل أكثر من عشرين سنة.

أكثر من ذلك أصبح خميس شخصية شهيرة فى أتلانتا بسبب تبرعاته لمتاحفها ومؤسساتها الخيرية مما شجع الرئيس جيمى كارتر على استقباله فى بيته وقدمت زوجته زولين إليه القهوة والحلوى ومن جانبه أهداها خميس شالا من الحرير عليه توقيع بيت أزياء شهير فى باريس.

المعروف أن كارتر كان حاكم جورجيا قبل أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة وما إن ترك البيت الأبيض حتى أنشأ مؤسسته غير الهادفة للربح مع جامعة إيمورى.

وصل خميس إلى مستشفى إيمورى هذه المرة غائبا عن الوعى ونجح الأطباء بأجهزة كشف حديثة فى معرفة سر الألم الشديد الذى يعانى منه.. بكتيريا من نوع شرس هاجمت عظام الرقبة وأفسدتها بل دمرتها.. وكان على الأطباء إجراء جراحتين.. الأولى لتغيير عظام الرقبة ببديل من الصفائح الرقيقة.. والثانية توصيل تلك الصفائح بباقى فقرات الرقبة لتتحرك معها.

ورغم نجاح الجراحة الأولى فإن الأطباء أجلوا الجراجة الثانية.

وما إن سمح الأطباء بنقله من غرفة الرعاية المركزة إلى غرفة عادية حتى سافر أبناؤه ياسمين وفريدة ومحمد الشهير بلقب بيبو بالتناوب ليناموا معه فى جناحه كما أنهم وضعوا كاميرا فى غرفته لمتابعته عن بعد وهم فى البيت ولم يكن أمامهم فى كثير من الأوقات سوى البكاء بغزارة.

كان الثلاثة بجواره فى اللحظات الأخيرة حين لاحظ الأطباء تغيرات حادة فى المؤشرات الحيوية أدت إلى صعود وهبوط الحرارة وضغط الدم ونسبة البولينا بحدة دون مبرر ظاهر وفى تلك اللحظات أدرك الجميع أن السماء تستدعيه لتصعد روحه إلى خالقها.

حدثت الوفاة قبل منتصف نهار يوم السبت الماضى فى وقت كانت الولايات المتحدة فيه تقضى إجازة نهاية الأسبوع مما فرض تأخيرا فى استخراج الأوراق المطلوبة فى مثل هذه الحالة إلى يوم الثلاثاء التالى ليسافر الجثمان 14 ساعة بالسيارة من أتلانتا إلى نيويورك ليوضع فى بطن الطائرة المصرية التى ستقلع من مطار جون كيندى لتصل فى تمام العاشرة من صباح يوم الخميس إلى مطار القاهرة.

وكان هناك اقتراح آخر بأن يكون السفر إلى القاهرة من واشنطن بعد سبع ساعات فقط يقطعها الجثمان فى السيارة من أتلانتا.

وجرى أيضا خلاف حول مكان الصلاة على الجثمان.. هل يكون مسجد السيدة نفيسة حيث كان خميس يساعد الفقراء الواقفين على أبوابه ؟ أم فى مسجد شركته النساجون الشرقيون فى العاشر من رمضان ليودعه عماله وموظفوه ومديروه ؟.. ومالت الأسرة إلى الاختيار الثانى.

وبسبب ما تردد عن طلب النيابة العامة سماع أقوال الابن فى قضية الفيرمونت خشيت العائلة من القبض عليه فور هبوطه مطار القاهرة ولكن مسئولاً كبيراً فى الداخلية قال : إن مصر دولة محترمة لن تحرم ابنا من دفن أبيه ومن ثم لن يوضع اسمه فى كشوفات ترقب الوصول ولكن بشرط أن يكتب تعهدا بتسليم نفسه إلى النيابة العامة صباح اليوم التالى للدفن والعزاء.

وأغلب الظن أن هذا ما سيحدث خاصة أن هناك قناعة لدى العائلة ببراءة ابنها بحجة غيابه خارج البلاد وقت الحادث ولكن الفيصل سيكون بالقطع إلى ما يقرره النائب العام فى القضية.

توفى خميس عن عمر يتجاوز ثمانين سنة فهو من مواليد 14 إبريل عام 1940 ولم تكن أسرته ميسورة الحال حتى إنه لا ينسى أن والده أصيب بمرض صعب وعندما طرق خميس باب طبيب لينقذه طلب منه خمسة جنيهات قبل أن يتحرك ولم يكن خميس يملكها وتوفى والده فى اليوم نفسه.

والمؤكد أن تلك الواقعة أثرت فيه فأنشأ مركزا طبيا متطورا تشرف عليه إحدى شقيقاته يعالج كل من يلجأ إليه مجانا وتزيد ميزانيته عاما بعد عام بسبب تضخم الأسعار.

وفى الوقت نفسه تولى رعاية أوائل الثانوية العامة ماديا ونفسيا حتى ينتهوا من دراساتهم الجامعية.

والأهم أنه يصف نفسه بأنه رجل صناعة بعد أن أسسس شركات صناعية متنوعة سجاد ميكانيكى وبتروكيماويات إلى جانب شركات عقارية وزراعية ومؤسسات تعليمية أشهرها الجامعة البريطانية وأكاديمية الشروق.

وكان خميس واضحا مع نفسه معلنا أن الثروة والسلطة يجب أن تتعاونا معا.. وقد جرب رضاء السلطة عنه وغضبها منه.

ذات يوم تصور وزير الإسكان إبراهيم سليمان أن خميس شريك فى صحيفة صوت الأمة حين كنت أهاجمه وأكشفه على صفحاتها فلم يتردد فى تعطيل مصالحه وأجبره على كتابة تنصل من الصحيفة وإنكار مشاركته فى ملكيتها والحقيقة أن خميس لم يكن مساهما فى الصحيفة وكف عن منحها الإعلانات ولم أتردد فى كتابة البيان بنفسى لينشر فى الصفحة الأولى من الأهرام وجاء النشر ليبرئ ساحتنا من شبهة تأثير رجال الأعمال على صحافتنا المستقلة.

ونسب إليه أنه انتقد مبارك فى أحاديثه الخاصة فما كان منه أن عوقب بحرمان الجامعة البريطانية من الكليات العملية التى تزيد من الإقبال عليها.

وما إن أبعدوه عن منصب رئيس اتحاد الصناعات حتى كون تنظيما موازيا أطلق عليه اتحاد المستثمرين استخدمه فى الترويج لكثير من أفكاره التى بدت غير معتادة فى أوساط البيزنس ومنها فرض ضرائب تصاعدية على الدخول وعلى أرباح البورصة ولكن مجموعة جمال مبارك هاجمته.

وعندما سألنى ترشيحا لرئاسة الجامعة البريطانية لم أتردد فى اختيار الدكتور مصطفى الفقى وأسعده الاختيار.

والمؤكد أن خميس يتمتع بعقلية اقتصادية متميزة تجعله يستثمر بسهولة كل ما يصادفه من فرص وإذا لم يجد تلك الفرص اخترعها.

والدليل على ذلك أنه خرج من مصر إلى لبنان بعد أن قدم استقالته من البنك الأهلى ولكنه وجد نفسه فى الكويت أكثر مديرا لمتاجر سجاد يمتلكها شخص يدعى عباس الهزيم وبقدرته الفائقة على النجاح حقق أرباحا غير متوقعة رفعت من أسهمه فى سوق العمل هناك.

وفى الوقت المناسب قرر العودة إلى القاهرة ليبدأ مع عدد محدود من الشركاء مشروع النساجون الشرقيون ويوما بعد يوم بدأ ينتج الخامات التى يستوردها وهكذا انتقل إلى صناعة البتروكيماويات ويوما بعد يوم افتتح مصانع للسجاد فى الولايات المتحدة والصين وبريطانيا ليسجل لنفسه مكانة متقدمة فى هذه الصناعة.

ولا شك أن خميس خلف وراءه إمبراطورية متعددة الأنشطة جعلت منه شخصية يصعب تكرارها مما يلقى على ورثته أعباء يصعب تحملها ما لم يعوضوه بطاقم من الخبراء يواصلون مسيرته.