بطرس دانيال يكتب: ارحم مَنْ فى الأرض...

مقالات الرأي



يُعلّمنا السيد المسيح قائلاً: «كونوا رُحَماء كما أنَّ أباكُم رحيم. لا تَدينوا فلا تُدانوا» (لو 36:6). يُحكى أن مديرة القسم فى إحدى الشركات قامت بجولة تفقدية للموظفين للاطمئنان على مسيرة العمل، فسألت أحدهم قائلة: «أخبرنى ماذا تم فى سجلات اليوم؟» فأجاب الموظف المجتهد: «ليست على ما يرام». فقالت له: «أريد أن أُلقى نظرةً عليها». فأجاب: «لا أستطيع اليوم، فأنا مشغول جداً». فقالت: «إذاً لا بد أن أراها غداً على أقصى تقدير». أجاب: «غداً سأذهب إلى الطبيب». فبدأت تفقد صبرها وأعصابها مهددةً إياه: «إن هذا يُسيء إليك، ويُعرّضك للمساءلة»، فردّ بكلِّ ثقةٍ وثبات: «هذا لا يهمنى على الإطلاق». ونتيجة هذه الردود الجافة، خرجت المديرة فى حالة غضب، وأحالت الموظف للتحقيق. وأثناء التحقيق معه، كتب الموظف المظلوم نص الحوار الذى دار بينهما هكذا: «لقد سألتنى المديرة عن صحتى، فقلتُ لها: ليست على ما يرام، وطلبت منى أن أذهب إلى الطبيب، فأجبتها أننى لا أستطيع اليوم، فأنا مشغول جداً. وعندما لاحظتُ القلق فى عينيها، قلتُ لها: غداً سأذهب للطبيب، وعندما سألتنى، هل أنت بحاجةٍ إلى إجازة لتستريح، قلتُ لها: هذا لا يهمنى أبداً، ولا أعلم لماذا أحالتنى إلى التحقيق». مما لا شك فيه أن الموظف الجديد لم يكن مخادعاً، لأنه كان ضعيف السمع، هذه الحكاية تحدث فى مواقفٍ مختلفة وأماكنٍ كثيرة، ونجد العديد الذين يستخدمون أسلوب الظلم والعنف والتسرّع فى الحُكم مع الضعفاء معتقدين أن الحق نصير القوة والسلطان، حتى إنهم ينتقمون دون أى اعتبار لعدلٍ أو رحمة. ألا يعلم هؤلاء أن هناك مَنْ هو أقوى منهم؟ هل نسوا أن الله يدافع عن المظلومين والمقهورين والضعفاء؟ فالحُكم الظالم لا يثمر إلا البغض والحقد والكراهية، لأنه يهدم ولا يبنى، يفرّق بين القلوب بدلا من أن يقرّبها، بينما اللين واللطف والرحمة تجتذب القلوب، وتُطفئ الأحقاد، وتنشر المحبة والسعادة. فالإنسان العادل والمحُب لا يحكم على تصرفات الأشخاص متسرعاً ولا يظن السوء فيهم، لأنه فى حالة اختفاء وضعف المحبة، نصبح على أتم استعداد لاكتشاف أتفه العيوب والنقائص فى الآخرين، ثم يعتقد كل واحدٍ منّا أنه ديّان ويبدأ فى الحُكم على الغير متمنياً أن يضع لوحةً كبيرة مكتوبا عليها نقائص وعيوب وهفوات الناس ليراها الجميع. بينما المحبة الصادقة كالنار التى تمحو الشوائب العالقة فوق المعادن الثمينة لتعطيها بريقاً أفضل. إذاً مَنْ منّا ينظر للآخرين بعين المحبة، سيصبح قادراً على اكتشاف ما بداخله من فضائل ومزايا وجمال، كما يجب علينا فى ذات الوقت أن نتحلى بالشجاعة التى تساعدنا على مواجهة أنفسنا وإصلاح عيوبنا، مكتشفين التشوهات التى بداخلنا ولا يعلمها إلا الله وحده. وكما يقول القديس فرنسيس دى ساليس: «إن الأشخاص الذين يتسامحون مع أنفسهم عندما يخطئون، نجدهم فى غاية القسوة مع الآخرين». مما لا شك فيه أن الإنسان الناضج والشجاع والحكيم يستطيع أن يواجه ذاته ويرى حقيقتها ليصلحها ويعالجها، لكن للأسف قلّما ننظر للغير نظرتنا لأنفسنا، فالغالبية العظمى تظن أنها بلا عيب، لذلك من الأفضل أن نحتمل بعضنا بعضاً، ونتعاون معاً لإصلاح ذاتنا قبل الغير، وكل ما لا نستطيع أن نعالجه فى ذواتنا أو فى الآخرين بمحبةٍ وتواضع؛ يجب علينا أن نتركه فى يد الله القادر على كل شيء والذى يستطيع أن يحوّل الشرَّ إلى خير. إذاً يجب علينا أن نكون رحماء مع الغير كما أن الله رحيم معنا جميعاً، فكما أن حرارة الشمس تبدّد الضباب عن وجه الأرض فتدبّ الحيوية فى الطبيعة وتنتعش الخليقة، كذلك الرحمة مع النفوس تزيل عنها الخمول وتعيد إليها النشاط وحُب الخير، وتبعدها عن الشر والفساد. لذلك يجب علينا ألا نحكم على تصرفات الآخرين لأننا لا نعلم ما بداخلهم ولا الظروف التى يمرون بها، بل نبدأ فى تقديم العون لهم ومساعدتهم للنهوض بهم. فالله فاحص القلوب والكلى ولا يُخفى عنه أى شيء، لم يخلقنا لينهش القوى الضعيف أو يترك العاجز فريسةً للظلم والطغيان. فالظلم داء يفتك أولاً بالظالم حتى ولو تخيّل أن له السلطان والقوة والحماية التى يستطيع بهما دهس الآخرين، لأن دموع المظلوم عزيزة عند الله الذى يرفض أى ظلم. ونختم بالمقولة الشهيرة التى كتبها أحد ملوك الفرس القدامى ليذكّر بها نفسه فى لحظة الغضب وعدم الرحمة: «اِرْحَم مَنْ فى الأرض، يرحَمُك مَنْ فى السماء».