بطرس دانيال يكتب: الحُب عطاء وتضحية

مقالات الرأي



يصف سفر نشيد الأناشيد قوة الحُب الحقيقى هكذا: «اِجعلنى كخاتمٍ على قلبكَ، كخاتمٍ على ذراعِكَ، فإنَّ الحُبَّ قَوىٌ كالموت.. المياهُ الغزيرة لا تستطيع أن تُطفئَ الحُبَّ والأنهار لا تغمُرُه» (8: 6-7). كان هناك زوجان فقيران لم ينطفئ حُب كل منهما نحو الآخر منذ زواجهما حتى الآن؛ بل كان يزداد يوماً بعد يوم، وكان كل واحدٍ منهما يحمل للآخر حُبّاً وإخلاصاً واحتراماً لا مثيل له . وقد ورث الزوج عن أبيه ساعة ذهبية، حتى أنه كان يحلم بشراء سلسلة من نفس المعدن ليضعها فيها. كما أن زوجته كانت تتحلى بشعرٍ طويل ناعماً ذهبى اللون، وكانت تحلم بشراء مُشط من اللؤلؤ لتضعه فيه ويسطع كالماس. ومع مرور الأيام والسنين كان الزوج يفكر فى شراء المُشط الذى ترغب فيه زوجته بالرغم من أنها نسيت ذلك الأمر تماماً. وفى ذات الوقت كانت الزوجة تسعى لشراء السلسلة الذهبية له. ولم يتحدث أحدهما مع الآخر فى هذا الموضوع لوقتٍ طويل؛ ولكن كل واحدٍ منهما كان يحمل الرغبة فى تحقيق أمنية شريك حياته. وفى صباح اليوبيل الفضى لزواجهما شاهد الزوج امرأته آتية مبتسمة وبدون شعر إطلاقاً، فسألها مندهشاً: «ماذا فعلتِ يا حبيبتى؟» ففتحت يديها ليشاهد فيها السلسلة الذهبية التى كان يرغب فى شرائها، وقالت له: «أنا قمت ببيع شعرى لأستطيع شراء هذه لك». فقال لها: «لماذا فعلتِ هذا يا جوهرتى؟» ثم فتح يديه وكان يحمل فيها المُشط المصنوع من اللؤلؤ، قائلاً لها «أنا قمتُ ببيع ساعتى لشراء هذا المُشط لكِ». فتعانقا الاثنان والدموع تنهمر من عيونهما مؤكّدَين أن غناهما نابع من حبهما الحقيقى وتضحيتهما غير المحدودة. ما أجمل هذه التضحية التى تُعتبر فضيلة ونعمة، لأنها تنبع من الحُب الصادق الذى يُعطى من الذات من أجل سعادة الغير. فعندما يتملّك حُب الله فى قلوبنا، لن نتردد ولو لوهلة فى القيام بأى تضحية فى سبيل الآخرين، لأن المحبة لا تقف عند حدٍّ؛ بل تفوق وتتخطى كل حدٍّ، كما أنها لا تشعر بثقل التضحية ولا تبالى بتعبٍ، بل تُسرع إلى القيام بأعمالٍ تفوق طاقتها وإمكانياتها. فالذى يُحب لا يندم أبداً على التضحية بأغلى ثمن من أجل الغير ومهما كانت مشقتها، فالمحبة تستطيع كل شىء وتقوم بأعمالٍ يعجز عنها فاقد الحُب. إذاً يجب أن نعوّد أنفسنا على التضحية بكل رضا وسعادة. فالتضحية لم تكن أبداً سبب شقاء للذين يحبّون إن كانت طواعيةً، بل ستكون سبيلاً للرقى والسمو والسعادة، كما أنها تمنحنا اكتساب رضى الله واحترام الناس وراحة القلب والضمير. وكما يقول المثل: «أنت لا تستطيع أن تنال السعادة إلا إذا بذرتها فى قلوب الآخرين». وهناك أمثلة عديدة للتضحية والتى تعبّر عن المحبة الصادقة ونجدها فى عمل أى شىء فى سبيل الغير، وهذا لا يكلّفنا جهداً ولكنه يساهم فى منح السعادة للآخرين. فهناك مَنْ يحرم نفسه من الذهاب للتنزه أو اللهو، ليزور المرضى وكبار السن حاملاً لهم البهجة والفرح. وهناك من يتبرع بإحدى كليتيه، أو جزءاً من كبده، لينقذ آخر محكوم عليه بالموت بسبب المرض. كم من الأشخاص الذين لا يترددون عن أى تضحية ليدخلوا المسرّة إلى قلوب المُعَذّبين أو المحرومين؟ كم من هؤلاء الذين يكرّسون حياتهم لخدمة المرضى أو العناية بالأيتام وكبار السن وذوى القدرات الخاصة؟ كم من الأشخاص الذين يتركون عائلاتهم ووطنهم ويتوجّهون إلى بلادٍ بعيدة فى سبيل خدمة الفقراء والمعوزين؟ كم من الأشخاص الذين يقومون بالتضحية بكل ما يملكون ليتسنّى لهم القيام بأعمالٍ خيرية فى صمت؟ فالإنسان الذى يُضحّى يجنى ثمار الحرمان اللذيذة، أى التقرّب إلى الله. مما لا شك فيه أنه لا يوجد أفضل من عمل الخير النابع من الحرمان، ولا يوجد أقدس منه عند الله والناس. كل حرمان نقبله راضيين، هو فرصة لنحت شخصيتنا؛ وبريق يشع من عيوننا، ونار منعشة لإرادتنا؛ وعلامة الطيبة فى ملامحنا، وكما قال السيد المسيح: «السعادة فى العَطاءِ أَعظمُ مِنها فى الأخذ» (أعمال الرسل20: 35). لأن السعادة الحقيقية بما نستطيع أن نمنحه ونعطيه، لا بما نقتنيه، لذا يجب علينا أن ندرّب أنفسنا على التضحية فى سبيل الغير، وستعود علينا بالخير والبركة طوال حياتنا. وبما أن الله جاد علينا بنعمٍ لا حصر لها؛ إذاً يجب أن نسعى فى مشاركة الغير فيها. ونختم بالقول المأثور: «قد يُعطى الإنسان بدون محبة؛ ولكنه لا يستطيع أن يُحب بدون عطاء».