حسن إسميك يكتب: متى يُكسر الجمود في ملفات الشرق الأوسط؟

مقالات الرأي

بوابة الفجر


منطقةُ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا "لا تزال الأقل سلاماً واستقراراً في العالم"! هذا ما انتهى إليه "معهد لندن للاقتصاد والسلام" في تصنيفه لـ"مؤشر السلام العالمي" لسنة 2020، والذي يصدر بالتشاور مع فريق دولي من الخبراء والمعاهد ومراكز البحوث، وبالتعاون مع مركز دراسات السلام والنزاعات في "جامعة سيدني" الأسترالية.
يعيد هذا التصنيف للأذهان السؤال الحاضر دائماً: لماذا لا يزال الشرق الأوسط يعيش دوَّامة العنف والجمود السياسي حتى الآن؟، نقلًا عن "إيلاف".

يشير المشهد البانورامي للمنطقة العربية إلى حالة من الاستعصاء الذي تفاقم نحو أُفُقٍ مسدود أمام أيّ حلِّ سياسي خلّاق للجمود الذي أصاب أغلب ملفاتها بالفشل، فالأزمةُ السورية مثلاً ما زالت تدور في حَلْقة مُفرَغة من العنفِ والعنفِ المضادّ نتيجةَ تدخُّل الأطراف الدولية والإقليمة وتعارض مصالحها، ولا خاسر في ذلك سوى السوريين أنفسِهم، وهم يرون استنزاف مقدَّرات وطنهم في المجالات كافةً.

وعلى غرار تدويل الأزمة السورية تتعرَّضُ "ليبيا" للتدخلات الخارجية ذاتها، حتى بلغ العنف السياسيُّ فيها درجاتٍ غيرَ مسبوقة، ناهيك عن تدهور مفهوم الدولة وانحسارِهِ لصالح مشاريع فئوية وجهاتِ أفقدت الليبيين الثقةَ بالمواطنة والإيمانِ بالمستقبل.

أما "فلسطين" وقضيتها التي كانت وما زالت تمثِّلُ أساسَ صراعات المنطقة فيبقى التنبُّؤ بمستقبلها أصعبَ من الضرب بالرَّمْل أو السير عبر الضباب، خاصةً بعد "صفقة القرن" التي ساهمت في تعقيد المشهد بدل تبسيطه، وباعدت بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أضعاف ما كانا عليه في السابق، وهي الصفقة التي وُلِدَتْ ميتةً حسب رأي كثير من الفلسطينيين، الذين وجدوا أنَّ خطةَ سلامِ "ترمب" في يناير 2020 لن تؤدِّيَ إلا إلى ضمِّ أراضٍ واسعة جديدة لإسرائيل، وأن هدفها العمليَّ تحقيقُ فوز "ترمب" في الانتخابات المقبلة عبرَ استمالة الناخبين الإنجيليين الذين يمثِّلون ربعَ عددِ الناخبين تقريباً.

وعلى الصعيد السياسي الإقليمي - الدولي، فما زال "الملف النووي الإيراني" عالقاً بسبب تمسُّكِ كلّ من "طهران" و"واشنطن" بموقفيهما، وهما يمارسان لعبة عضّ الأصابع التي يختبر كلُّ طرفٍ فيها صبر الآخر وقدرته على التحمُّل.

وإذ يُصِرُّ "ترمب" على أنّ موقفه المتشدِّدَ من "طهران" مبنيٌّ على حجم التهديد الذي تمثله إيران ضدَّ الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، فقد أتبع انسحابَه من اتفاق (5+1) بتبني استراتيجية "الضغوط القصوى" ضدَّ النظام الإيراني، والتي ترتكز على تشديد العقوبات المفروضة عليها، ومنعِها من بيع النفط الخام والوصول إلى أسواق المال الدولية، للحدِّ من أنشطتها النووية والصاروخية، وتقليصِ ممارساتها وسياساتها العدائية المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة، وتقليصِ دورِ أذرعها السياسية النشطة في الدول العربية، وخاصةً في العراق.

من جهته، ما زال يعاني "العراق" من التعطيل السياسي والاقتصادي القائم على تدهور الثقة بين قياداته السياسية وقواعده الشعبية، التي لم يبقَ أمامها سوى إعلان العصيان المدنيّ مدعوماً بالمظاهرات السلبية المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية، وإنهاء المحاصصة السياسية والطائفية، ومحاربة الفساد، وحماية استقلال سيادة العراق، وقراره الداخلي.

غيرَ أنَّ هذه الأهداف ما زالت بعيدةَ المنال بسبب تعقُّدِ الحالة العراقية التي أدخلت العملية السياسية برمتها في مسارات مظلمة مجهولة المصير.

حربٌ تَلِدُ أخرى:
اتَّسم تاريخُ الشرق الأوسط الحديث بالصراعات الدموية التي حولته إلى جحيمٍ لا يطاق؛ سواءٌ بسبب حروبه التي لا تنتهي - وكأنَّها سلسلةٌ من النزاعات المتعاقبة التي لا تنتهي إحداها إلا بعد أن تَخْلُفَها أخرى، فكأنّ الحرب فيها ولادةٌ، كلما انتهت في جهة عادت لتضطرم نارُها في جهة أخرى - أو بسبب اقتصادهم المنهار.

ومن المفارقة ذاتِ الدلالة في هذا الشأن: أنَّه رغم كون التدخلات الخارجية مسبباً رئيساً لاستمرار الصراع، فإنَّ انكفاءَ بعضِ هذه التدخلات أيضاً يؤدِّي إلى النتيجة ذاتها. فمثلا ساهم توجُّهُ "الإدارة الأميركية الحالية" نحوَ عدم الانخراط في الأزمات الدولية مقابلَ العملِ بشعار "ترمب" المعلَنِ "أميركا أولاً" والذي أعلن فيه ضرورةَ خروجِ الولايات المتحدة من دوَّامة "الحروب التافهة" التي تعصف بالمنطقة بحسب تعبيره، وضرورةَ وقفِ نزيف الاقتصاد الذي كلّف "واشنطن" أكثرَ من (ثمانية تريلونات دولار)، ناهيك عن خسارة (عشرات آلاف) الجنود بين قتيل وجريح، أدّى هذا الموقفُ - والذي أراد فيه "ترامب" إنهاءَ دورِ الشرطي الأميركي في المنطقة وتوجيهَ الجهودِ تجاه المنافسة مع الصين - إلى المزيد من التعقيد في الشرق الأوسط، وجمودِ أغلب ملفات الصراع فيه؛ إذ تبقى أميركا الراغبةُ في الانصراف عنه هي اللاعبَ الأساسي الأقوى الذي سيبقى مؤثراً في حضوره وغيابه على حدٍّ سواء.

أمامَ هذه التحدِّيات جميعِها - ولأجل كسرِ حالة الجمود "الشرق أوسطية" هذه، وسدِّ الفراغ القائم على تناقضات حالة اللاحرب واللاسلم - ليس ثَمَّ حلٌّ سوى أن يبادر عقلاء المنطقة، من القادة والسياسيين والمفكرين، إلى الأخذ بزمام الأمور وتوجيهها نحو فتحِ قنوات التواصل مع جميع الأطراف السياسية الإقليمية والدولية ذات التأثير، وذلك بُغْيةَ المسارعة في الإنقاذ والحدِّ من الانجراف نحو الهاوية المرتقبة.

وينبغي مقابل ذلك أن تدرك "الولايات المتحدة" وحلفاؤها الغربيون أنّ نيران الأزمات التي لا تُطفأُ اليومَ ستصل إليهم غداً أو بعد غد، فنذيرُ سوءِ الأوضاع في أغلب دول الشرق الأوسط لن يرتدَّ على الغرب إلا بالمزيد من موجات الهجرة التي ستغزو بلدانه طلباً للأمن والسلام، مما سيزيد الكُلَفَ السابقةَ كلفةً جديدة هم بغنى عنها اليوم، خاصةً في ظلّ التردِّي الاقتصاديّ والصحيّ الذي يشمل العالم كلَّه في ظلّ "وباء كورونا".


ولا شكَّ أنَّ أزماتِ الشرق الأوسط الراهنة تتطلَّبُ منّا جميعاً اليومَ نهجاً جديدا من التفكير، يقوم على طريقٍ ثالثةٍ يمكن من خلالها تجاوزُ الثنائيات المتناقضة الهادمة لذاتها، والتي أدّت دائماً إلى نقطة الصفر التي تجمِّدُ الحلّ وتزيد المشكلة.

ولتجاوز ذلك لا بدّ من خارطةِ واضحة للطريق الثالثة تركِّزُ بالدرجة الأولى على معالجة نقاط الخلاف الجوهرية بين الأطراف المتصارعة، وتتخذُ نهجاً شمولياً يراعي مصالحَ الجميع دون استثناء، خاصةً بعد إخفاقِ جميعِ الحلول الجزئية أو المنفردة أو المنحازة في إيجاد أية تسويات ذاتِ قيمةٍ لأزمات المنطقة، بل كانت حلولها المؤقتة سبباً في مشاكلها وصراعاتها المتجدِّدة عبر عشرات السنين المنصرمة.

لذلك فإنّ تحريكَ ملفاتِ المنطقة الساخنة أصبح ضرورةً مُلحَّةً وعاجلة، وأملُنا معقودٌ على أن تبادر الدولُ العربية الفاعلة في المنطقة، وقياداتُها صاحبةُ التأثير الإقليمي والعالميّ إلى طرح مبادرات خلّاقة حول الملفات الساخنة؛ بحيث تكون هذه القيادات في طليعة المساهمين في رسم وصناعة تاريخٍ جديدٍ لشعوب "الشرق الأوسط" كافةً لخلق عهدِ جديد يتوقَّفُ فيه استنزافُ الثروات، ونتخلّص من الفوضى والإرهاب (وحرب الكل ضد الكل)، وكما قيل: "الساسة العظام هم الذين يصنعون فرقاً لشعوبهم" .