د. رشا سمير تكتب: 10 دقائق و38 ثانية فى هذا العالم الغريب

مقالات الرأي




أثناء جلوسها فى القطار المتجه إلى ويلز للمشاركة فى احتفال هاى للآداب الذى يقام سنويا فى مدينة ويلز البريطانية، تلقت الروائية التركية الأصل البريطانية الجنسية إليف شافاق مكالمة تليفونية من الناشر الخاص بها فى إسطنبول ليخبرها أن مجموعة من الضباط اقتحموا دار النشر التى صدرت منها روايتها الأخيرة، وقاموا بمصادرة بعض النُسخ للعرض على المدعى العام، وعليه فقد تم توجيه التهمة لها بالكتابة عن قيم منافية للآداب.. الحقيقة هى ليست المرة الأولى التى تتعرض فيها الروائية لمضايقات من السلطات التركية فمنذ أعوام كانت رواية (لقيطة إسطنبول) سببا فى وقوفها أمام المحكمة بتهمة إهانة دولة تركيا.. والحقيقة أن هذه الاعتداءات المتكررة على أصحاب القلم فى تركيا باتت سيناريو مُعتاد للقمع الذى تمارسه الدولة على الصحفيين وأصحاب الأقلام طول الوقت.

لكن وبرغم كل التحديات والمضايقات، هاهى إليف شافاق تعود من جديد لتقديم الرواية السابعة عشر لها ولتثبت مرة أخرى أنها تقف على أرض صلبة لكونها واحدة من أهم الروائيات على مستوى العالم.. الرواية صدرت باللغة الإنجليزية عن دار نشر بلومزبرى وترجمتها إلى العربية دار الآداب للنشر بلبنان مُستعينة بقامة عراقية شامخة هو المترجم البارع الدكتور محمد درويش الذى أثرى المكتبة العراقية والعربية بنماذج رائعة من الأدب العالمى، والحقيقة أن ما قام به فى ترجمة هذه الرواية مجهود موازى أضاف للرواية يستحق عنه التقدير.. الرواية تم اختيارها عن جدارة ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر مان العالمية عام ٢٠١٩.

عاهرة على ضفاف البوسفور: تبدأ الرواية بإهداء أنثوى هو مغزى القصة يقول: (إلى نساء إسطنبول.. وإلى مدينة إسطنبول.. التى كانت ولازالت مدينة أنثى).

فى رأيى أن العمل الجيد فكرة.. فكرة من خارج الصندوق أو فكرة لم يتطرق إليها أحد من قبل، والمشكلة الحقيقية التى تواجه أى روائى محترف هى الوصول إلى تلك الفكرة التى تُعتبر الخيط الأول الذى يبدأ منه نسج العمل من حيث السرد والأحداث والتقنيات الأدبية الأخرى..

هنا وبدون نقاش يجب أن أرفع القبعة مرتين أولا للعنوان البديع الذى ربما لو كان قد عُرض على أى ناشر مصرى لرفضه من غرابته وطوله (10 دقائق و38 ثانية فى هذا العالم الغريب) لكنه فى النهاية عنوان متميز جدا يجعلك تفكر ألف مرة ويدفعك الفضول لمعرفة ما ورائه من معنى، أما الفكرة التى تدور حولها الرواية فهى بلا جدال فكرة عبقرية، قررت فيها الروائية فضح العالم السرى لشوارع إسطانبول، رائحة القمامة والبشر التى تمتزج وتفوح من بين السطور.

الإحصائيات تقول إن ٣٨٪ من السيدات فى تركيا يتعرضن لعنف جسدى أو نفسى وهو ماحاولت أن تنقله شافاق ببراعة على الورق.

إنها رحلة عاهرة إسطنبول ليلى تكيلا فى الـ١٠ دقائق و٣٨ ثانية التى تفصلها عن انتقالها إلى العالم الآخر، تلك اللحظات التى يظل فيها بحساب العلماء العقل واعيا وقادرا على تذكر كل التفاصيل وحتى الصمت الأبدى من بعد توقف العقل تماما، تتنقل الرواية بهدوء وسلاسة ما بين تلك اللحظات التى تصف عُمر ليلى وأصدقائها.

تدعو شافاق قارئها للإبحار داخل عقل ليلى التى وُجدت جثة هامدة فى مقلب للقمامة، هذه الرحلة التى تبدأ بالدقيقة الأولى وتصل للعاشرة، وكأنها دعوة للقارئ أن يقوم بالعد التنازلى وهو يتصفح حياة ليلى التى تحولت دون أن تقصد إلى فوضى عارمة.

من خلال ليلى ألقت شافاق الضوء على حيوات النساء الضائعة فى إسطنبول، تلك الحيوات التى اتسمت بالاختلاف، هؤلاء ممن بحثن عن هويتهن فى ظل مدينة أنكرت وجودهن، وحاولت طول الوقت أن تقتنص منهن الحقوق.

إذن المدينة هنا تقف وراء القضبان وتجلس شافاق فوق منصة القاضى لتروى وتُحقق ثم تنطق بالحكم.

العقل والجسد والروح:

(بدأ وعى ليلى تكيلا فى الدقيقة الأولى التى أعقبت موتها يتلاشى على نحو بطئ وثابت، وأصبحت خلايا دماغها محرومة من الأوكسيجين بعد أن خلت من الدم ولكنها لم تتوقف على الفور، ومع أن قلبها قد توقف فقد ظل دماغها يقاوم وكأنه يقاتل حتى النهاية).

قسمت شافاق الرواية إلى ثلاثة أجزاء، الأول هو العقل والثانى هو الجسد والأخير هو الروح.. تحت الجزء المسمى بالعقل أدرجت الدقائق العشر والثمانى وثلاثين ثانية.

ربطت شافاق ببراعة هذا الجزء بمذاق الأشياء، وكأن طعم الأشياء يعيد إلى ليلى الذكرى ويصنع بينها وبين الحياة جسرا أخيرا.

ذكرى الملح الذى غطوا به جسدها عند الولادة، الليمون والسكر، القهوة بمذاق الهال، البطيخ، يخنة الماعز المتبلة بالبهار، رائحة حامض الكبريتيك وحلوى الشيكولاتة المحشوة بالكراميل.. وهكذا حتى تنتهى الدقائق الأولى.. من خلال ليلى نتعرف على الأم البائسة التى تحمل بعد العديد من الإجهاضات وفى لحظة خاطفة تصبح أم لطفلة جميلة هى ليلى.. ثم يقرر الأب الذى تزوجها بعد أن فقد الأمل فى الإنجاب من زوجته الأولى، أن يمنح هذه الطفلة كهدية لزوجته الأولى ويحرم الثانية من ابنتها بعد إقناعها بأن ما تفعله خيرا وثوابا كبيرا، وأنها ستصبح العمة لهذه الطفلة فى حين تصبح زوجته هى الأم.. والمبرر أنها تستطيع أن تنجب المزيد من الأبناء.. ولا يُصبح أمام الأم المستضعفة سوى الخضوع.

نتعرف على عائلة ليلى، أمها وعمتها وأبيها وجيرانها، وعلى عمها الذى يشكل نقطة تحول فى حياتها، من خلال تلك التفاصيل نغوص فى عادات وتقاليد الزواج والإنجاب وموروثات الأجيال.

ليلى الفتاة البسيطة التى ولدت فى قرية «فان» وانتهت جثة فى مقلب زبالة، أصبحت هى ضمير مدينة ماجنة ليس للظلم بها حدود.

الصفحة الأولى من الرواية تبدأ بخريطة لإسطنبول، خريطة مختلفة توضح الأماكن التى تدور فيها أحداث الرواية وكأنها تأخذ القارئ لترسخ فى ذهنه تلك الأماكن التى قد تكون غير معروفة للبعض، مثل شارع المواخير، جسر البوسفور، شارع صُناع المراجل، مقبرة الغرباء، مولوى أو تكية الدراويش المتصوفين وساحة تقسيم.

أصدقاء العُمر واللحظات الأخيرة:

أبطال هذا العمل خمس شخصيات رسمتهم شافاق فى بورتريه منمق وبدقة بالغة، من خلال الدخول فى عالم كل منهم بقلمها الرشيق، أبحرت داخل تفاصيل أوجاعهم، أحلامهم، وسقوطهم.. كروائية أبهرتنى الطريقة التى استطاعت بها شافاق أن تمسك بتلابيب الشخصيات وكيف جمعت بين أصابعها خطوط الأحداث وخيوطها ليتلاقى الأبطال، دخول الشخصيات إلى الرواية

كان بالنسبة إلى كقارئة وكأنهم فرقة مسرحية يقف أبطالها خلف الستار ينتظرون إشارة ليعتلوا خشبة المسرح ويؤدون أدوارهم.. كلما خفتت ذاكرة ليلى تستدعى المزيد من التفاصيل، فهاهى الروائية تقدم لنا الأبطال من بين الفصول، فتدفع بأصدقاء ليلى الواحد وراء الآخر.. خمسة أبطال.. أربع فتيات وفتى واحد.

نوستالجيا نالان.. ومن خلالها تطرق شافاق باب موضوع شائك للغاية، المتحولون جنسيا ومدى ما يلاقونه فى المجتمع التركى من عنف وتنمر وازدراء.

سنان المخرب.. الصبى الذى تربى فى مجتمع دفعه لأن يجد راحته فى رفقة الأشخاص غير المثاليين، فهو فى النهار شخص عادى وفى الليل له حياة أخرى.

جميلة.. ابنة الصومال التى تمزقت بين أب مسلم وأم مسيحية وأصبح صراعها مع الحياة هو صراع مع النفس والوجود.

زينب ١٢٢.. الفتاة المتقزمة المتدينة التى ولدت فى قرية بشمال لبنان، تقرأ الفنجان وتتنبأ بآت يأتى وماض لا يظل إلا عنوانا للمستقبل.

حميراء هوليوود.. ولدت فى ماردين على هضاب ميسوبوتاميا الكلسية، ونشأت بصحبة الأغنيات التركية والكردية والعربية والأرمنية والسريانية.. تلقى الروائية الضوء على هؤلاء الأبطال الخمسة وتجمعهم تحت سقف واحد فتستدعى ذكرياتهم لتصنع منها حاضرا عنوانه صداقتهم.. السرد فى الجزء الثانى والثالث من الرواية هو سرد واقعى يربط مرحلة الجسد بالأشياء الملموسة.

إنها رواية ترسم صورة أخرى للأقليات من المتقزمين والمهمشين والضعفاء والعاهرات والمتحولات جنسيا، هؤلاء ممن هزمهم الزمان فى كل المواقع.

رواية بمذاق خاص:

إننا أمام روائية ذكية ومتفردة تمتلك أدواتها جيدا وتمسك بكل اقتدار بخيوط الحكاية التى لم تنفلت للحظة من بين أصابعها وعلى الرغم من عدم وجود عنصر التشويق فى انتظار الحدث القادم إلا أن الإبحار فى النفس البشرية وكم الإسقاط الذى أحدثته شافاق بقلمها نتج عنه عمل إبداعى متميز.

كما عودتنا فى كل رواية تنتقل شافاق بقدرتها على السرد من الداخل إلى الخارج ومن الأفكار إلى الأفعال.

إنها مبدعة عن جدارة تكتب بشغف وشجاعة وعشق للكلمة وفى محاولة دائمة للوقوف خلف الوطن للكشف عن خباياه ونواقصه ودوافعه ومواقفه.. بكل صدق تلك الرواية هى تحفة فنية تستحق القراءة..