بطرس دانيال يكتب: بين النجاح والفشل

مقالات الرأي



نقرأ فى سفر الأمثال: «صلاحُ القلبِ حياةُ الأجساد، والحَسَدُ نَخْرُ للعظام» (30:14). لماذا نسعد بنجاحنا وتفوقنا ونفتخر بمواهبنا؛ بينما نحزن ونتضايق من نجاح الآخرين والنعم التى منحها إياهم الله؟ ما السبب فى اختلاف الشعور بين الحالتين؟ مما لا شك فيه أن العامل الرئيسى هو الحقد والحسد نحو الغير حتى تصل بنا الحالة إلى اختلاق العيوب والنقائص فى جميع أعماله. يُحكى أن فناناً رسم لوحته وظن أنها الأجمل والأفضل على الإطلاق بدون منافسة، فأراد أن يتحدّى بها الجميع فوضعها فى مكانٍ عام وكتب عليها هذه العبارة: «من يرى عيباً أو خللاً بسيطاً فليضع علامة باللون الأحمر فوقها». ثم عاد فى المساء فأصيب بصدمةٍ عندما وجدها مشوهةً تماماً بإشارات حمراء تدل على الخلل والعيوب هنا وهناك، مما جعل اللوحة الأصلية تختفى تماماً. فذهب إلى معلمه ليعلن له عن قراره فى ترك فن الرسم لعدم كفاءته فى هذا المجال. فأخبره المعلّم بأن يغيّر صيغة العبارة فقط مع الاحتفاظ بنفس المنظر، فقام بإعادتها بالملامح ذاتها كما كانت من قبل دون أى تغيير وواضعاً إياها فى المكان ذاته، ووضع ألواناً وريشة وكتب تحتها هذه العبارة «مَنْ رأى خللاً أو عيباً فليمسك الريشة والألوان وليصلحه». فلم يقترب أحدٌ من اللوحة حتى غروب الشمس، وتركها على هذا الوضع لعدّة أيام ولم يَر أى علامة عليها. فقال له المعلّم: «كثيرون الذين يرون العيوب والخلل فى كل شىء؛ ولكن المصلحين قليلون». هذا هو حال الضعفاء والحاقدين الذين يرون الأخطاء فقط فى أعمال الغير أو يخترعونها، ولكنهم لا يقدّمون الحلول، وما أكثر الذين يعشقون انتقاد الناس! إن الحقد داءٌ خبيث ومن الصعب لحامله أن يُشفى منه، فالإنسان الحاقد على الغير هو شرير بطبعه يصنع السوء ويتباهى به، كما أنه يكره الخير والنجاح للغير، ويبذل كل ما فى وسعه لمحاربته، خلاف ذلك لا يرى فى الحياة سوى ذاته وأفضاله. والحاقد يشعر بسعادةٍ بالغة عندما يرى فشل الآخرين أو أن تحلّ عليهم مصيبة لتعصف بهم، وإذا رأى عيباً أو خللاً فى أعمالهم لا يريد إصلاحه، ولكنه يفضّل فضحه وإعلانه أمام الجميع. مثل هذا الإنسان يضع جمر نار على رأسه، حتى إنه يقضى على نفسه بهذا المرض اللعين. بينما الشخص الناضج والصالح والسوي، يعمل فى ثقةٍ ولا ترتجف يداه وهو يمسك بأداة محراثه، كما أنه لا يتطلع إلى الوراء ونجده صامداً أمام الصعوبات، ويضع أمام عينيه هدفاً ساعياً بكل ما عنده لتحقيقه، وإذا لم يصل إليه، يكون راضياً قنوعاً، لأنه بذل قصارى جهده لتحقيق مأربه. ومما لا شك فيه أن الأشخاص العظام والناضجين يتحلّون بالاستقامة والنزاهة والتواضع أمام نجاح الغير، كما أنهم يتميزون بالمنافسة الشريفة والروح الرياضية، لا يتملّكهم الحسد أو الضغينة لتفوق الآخرين. مَنْ منّا يسعى لمساعدة الغير فى أعماله مشجّعاً إياه عندما تكون جميلة وناجحة، أو يُبدى رأيه لتصحيح العيوب والأخطاء حتى تبدو أكثر جمالاً؟ لتحقيق هذا، نحن بحاجةٍ إلى نقاء النفس وصفاء الروح والتحلّى بالروح الرياضية التى تقبل تفوّق الغير علينا. فالمنافسة الشريفة تدفع صاحبها إلى الإعجاب بمن هو أفضل منه، وتولّد فيه الرغبة للاقتداء به والنجاح على غراره. وكما يقول الشاعر العربي: «وتَشَبّهوا إن لم تكونوا مِثْلهم... إنّ التَشَبّه بالكِرَام فَلاَح». والمقصود هنا المنافسة الصالحة، أى السعى إلى التشبّه بالنفوس الكريمة، والتسابق معها فى ميدان الخير والفضيلة والأخلاق، دون الوقوع فى رذيلة الحسد والغيرة. فالمنافسة الشريفة والصالحة هى فضيلة النفوس النبيلة، والقلوب الصافية، والهمم الجبّارة، فى حين أن الحسد هو شعور بالنقص وداء عضال يعترى النفوس الضعيفة والهشّة التى لا تُحب الخير والنجاح للآخرين، وأمثال هؤلاء لا يجدون أمام فشلهم أفضل من البحث والتنقيب فى حياة العظماء والناجحين عن مواطن الضعف والخلل ليجدوا فيها ما يعزّيهم عن جهلهم وضعفهم وحقدهم. إذاً... لا يوجد إنسان على وجه الأرض خالٍ من النقائص والعيوب، إلا من أعمته الكبرياء لأنه يتصور ذاته أفضل من جميع الناس، ويصل به الحال إلى إهمال وترك هذه العيوب التى تشوّه معالم شخصيته، ويتغافل عنها حتى إنه يعوّض ذلك بالكشف عن نقائص الغير، لأنه يتألم ويشعر بأذى عند رؤية الخير والنجاح فى الناس، ويبدأ فى فضح عيوبهم وترويج الأكاذيب عنهم. ونختم بالقول المأثور: «القيمة الحقيقية للإنسان ليست فى إحساسه بنفسه؛ بل فى عطائه للناس».