منال لاشين تكتب: هل تستحق حنين ومودة الرحمة؟

مقالات الرأي




القوانين تعكس قيم المجتمع وقناعات أفراده والأحكام المشددة هى نتاج لمجتمع لايثق فى نفسه منح الفتاتين فرصة أخرى كان أفضل بدلا من تسليمهما للمجهول

فى عصرها الذهبى لم تكن أمريكا بلد الفرص فقط، بل بلد الفرصة الثانية. ولذلك لديهم قناعة بمنح المخطئين فرصة لتجاوز الخطأ، وأن من حق الجميع رجالا ونساء شبابًا وشيوخا دعمهم لمواطنين اخطأوا وارتكبوا مشاكل قانونية، ولكنهم ليسوا مجرمين أو رجال عصابات. وإيمان الأمريكان بالفرصة الثانية امتياز يرجع إلى نشأة أمريكا بالأساس وتكوين المجتمع الأمريكى. فمعظم المهاجرين الاوائل لأمريكا ذهبوا إليها بحثا عن فرصة ثانية. من بهرهم بريق الذهب الذى سيغير حياتهم الفقيرة، ويمنحهم فرصة ثانية للانضمام لنادى الاثرياء. ومن فروا من الاضطهاد الدينى أو السياسى فى بلادهم الأوروبية التى كانت تدعى التحضر، من خسروا مكانهم فى النخبة الاجتماعية سواء لخسارة ثرواتهم أو سمعتهم وهاجروا إلى أرض الاحلام بحثا عن فرصة ثانية فى الحياة. ولذلك أصبح الحق فى فرصة ثانية لتدارك الأخطاء هو امتياز أمريكى. وانعكس ذلك فى النظام القانونى، لأن القانون والقوانين هى ترجمة لقيم المجتمع وصراع التوازن داخله من خلال مواد القانون والتهم والعقوبات. ولا تنطبق تلك القاعدة على أمريكا وحدها، ولكن كل نظام قانونى فى أى دولة هو ترجمة لقيم هذا البلد. ولذلك فإن تناول القضية الاجتماعية للفتاتين حنين ومودة على التيك توك. ليس تناول الحكم القضائى، ولكن التناول الأعمق للمجتمع وقيمه التى تترجم فى صورة قوانين أو تدفع النظام القضائى إلى التشدد تجاه جريمة ما أو الدعوة لتغيير القوانين. لأن القاضى هو ضمير المجتمع رغم التزامه بالقانون. مرة أخرى هذه القواعد تنطبق على الجميع فى أمريكا أو الهند أو مصر.

1- مجتمع متسامح

ولسنوات طويلة كان المجتمع المصرى يؤمن بالتسامح والرحمة. كنا نبقى على شعرة معاوية فى الخناق، ونمسك بيد من تعثر فى الطريق ونفرح لو أنقذت فتاة مستهترة بالستر والزواج مرددين الحمد لله اتسرت.. كنا نؤمن بأن كل البشر خطاءون ونقدر طيش الشباب و«وزة» الشيطان والضعف البشرى. لذلك كان من البديهى أن يؤمن المجتمع بالفرصة الثانية. ولم يكن يطالب بقطع رقبة المخطئ أو يرى أنه من الممكن لو اعطى الفرصة الثانية ليعاود المضى فى الطريق الصحيح. ولكن هذه القيمة تغيرت أو بالاحرى تدمرت مع قيم أخرى جميلة ونبيلة، ثمة فيروس أقوى فتكا وأخطر من فيروس كورونا أصاب بنية المجتمع المصرى الاجتماعية. لم نتوقف فقط عن الامساك بيد من تعثر، بل أصبحنا ندوس عليه بأقدامنا بقوة حتى نضمن ألا تقوم له قائمة مرة أخرى. صرنا نشمت فى كل من يخطئ أو يتجاوز القانون حتى لو كانت سابقته الأولى. أصبحنا مستعدين لشنق شباب صغير يفتقد الخبرة ويمكن احتواؤه بدلا من تدميره، ولأننا لم نعد نثق بإيماننا وقيمنا، فقد أصبحنا نتشدد فى طلب العقوبة ونرفض طلب المغفرة. وكأننا سنعلو ونسمو بأنفسنا إذا سحبنا الآخرين إلى أسفل السافلين، كنا شعبا يعشق النميمة ولكنه ينهيها بجمل من نوع دع الخلق للخالق أو ربنا يهدى عباده. فأصبحت النميمة وحشا يفترس سمعة الناس وخصوصيتهم ويفتك بهم بقوة وشراسة، ولاشك أن هذه الصفات مثالية للتشدد فى أحكامنا على البشر، وعلى رغبتنا الدموية فى القضاء والانتقام من كل من اخطأ ولو كان خطأ يمكن تداركه، وكل من خالف القانون حتى لو كان شابا صغيرا بلا خبرة وارتكب سابقته الأولى. لا رحمة ولا شفقة ولا مودة حتى لو كانت اسم إحدى الشابتين مودة، والأخرى حنين.

2- قتل المودة

فى البداية وقبل الدخول فى نموذج الشابتين مودة وحنين، فأنا مدينة بالاعتذار لهما لأنه لولا أن البعض انتهك خصوصيتهما لما ذكرت اسميهما من الأصل أو نشرت صورهما، فقد تناسى فقط الرقباء على المجتمع وحكماء الفضيلة أن الفتاتين محميتان قانونا بعدم الكشف عن شخصيتهما. لأن مودة وحنين مجرد فتاتين من آحاد الناس بنص القانون، ولا تنتميان للشخصيات العامة، ولذلك فإن الكشف عن شخصياتهما فضلا عن نشر صورهما خطيئة لا تقل عن الجرم الذى وقعت فيه الفتاتان. فإذا كانت مودة وحنين صغيرتين تفتقدان للخبرة فوقعتا فى الخطأ، فما هو عذرنا نحن الكبار فى فضح الفتاتين وانتهاك حقهما فى الخصوصية. ما عذر من أقاموا أنفسهم قضاة للفضيلة وحماة للشرف. ليس لهم من سند فيما فعلوا سوى شهوة الانتقام والتشدد والتعصب الاعمى. لو كان المجتمع لايزال على إيمانه بالتسامح لرأينا القصة بصورة مختلفة تماما. فتاتان صغيرتان قليلتا الخبرة، ووقعتا فى غواية الإنترنت وسهولة المكسب المادى، والاعتقاد أن الإفلات من الجريمة أو بالاحرى عدم وجود جريمة تستوجب العقاب. وإذا كان جهل الانسان بالقانون لا يعفيه من العقاب، فإنه يعد مبررا للتسامح مع المخطئ فى ظروف معينة منها صغر السن والخبرة والسابقة الأولى، وقد كانت مثل هذه الأسباب تعود المجتمع للتسامح الإنسانى مع المخطئ. ويتمنى له البراءة فى المحكمة، لكى يعاود المضى قدما فى حياته مثلنا، أو بالاحرى مثل الأسوياء. ولكن هل من الممكن أن نكون حقا أسوياء بدون رحمة أو مودة. هل يمكن أن نكون أسوياء إذا لم نستطع احتواء أخطاء أولى لفتيات أو شباب فى مقتبل الحياة بدون خبرات؟.. هذا هو السؤال، وإجابة هذا السؤال هى التى تحدد فى أى مجتمع مجموعة القيم التى تحكم صناعة القوانين ومدى تشددها أو تسامحها.

3- درس حنين ومودة

كل مجتمع يمنح أفراده بشكل غير مباشر مجموعة من الدروس، لا تحتاج هذه الدروس إلى مدرسة أو فلوس أو امتحان ونجاح ورسوب. ومن المفارقات فى قصة مودة وحنين أن الاتهام الموجه لهما تسهيل دعارة، ولكن دروس المجتمع كانت فى الاتجاه المعاكس. بالنسبة لمودة أو حنين وفتيات كثيرات فإن شرف الفتاة المقدس لا يكمن فى أخلاقها أو شخصيتها أو احترامها لذاتها، وإنما يقتصر مفهوم الشرف على إجراء واحد يحدد مفهوم شرف الفتاة ويمنحها عند الزواج الكبرياء. بالنسبة للمجتمع كل خطأ من دون فقد هذا الجزء الصغير جدا من الجسد يمكن غفرانه أو بالاحرى السكوت عليه لأنه سيظل سرا، ولذلك بدا للفتاتين فيما أظن أنهما لا يرتكبان الجريمة الكاملة أو المخلة بالشرف، فالشرف مصون ولم يمس لأن الجريمة كانت عبر الانترنت. ولذلك كنت أفضل لو كان لدينا مساحة للتسامح مع الخطأ الأول لفتاتين صغيرتين فى جريمة لا تزال مبهمة وغير معتادة، لأن التسامح كان سيعود بهما للمضى قدما فى حياة مستقيمة، أو بالمعنى المصرى القديم سيتم سترهما. ولو كنت أملك الخبرة القانونية للبحث عن منفذ قانونى أو تغيير تشريعى يسمح لأمثال مودة وحنين ويشد الفتاتين إلى العودة للطريق الصحيح، ربما بإيقاف العقوبة.. وربما بإجراءات أخرى، المهم ألا نرمى بالفتاتين إلى مستنقع لا عودة منه.