بطرس دانيال يكتب: نحن وكلاء لا مُلاّك

مقالات الرأي



يقول السيد المسيح: «ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أن يَعَملَ لسيِّدين، لأنَّه إِمَّا أن يُبغِضَ أحدَهُما ويُحبَّ الآخَر، وإمَّا أن يَلَزمَ أحَدَهُما ويزدَريَ الآخَر. لا تستَطيعونَ أن تعمَلوا لله وللمِال» (متى 6: 24). كم من ملايين البشر الذين يلهثون وراء سعادة مزيفة نتيجة تمسّكهم ببريق المال والثروة بكل طمعٍ طالبين المزيد؟ لماذا لا يدرك هؤلاء أن الثروة والمال والغنى بهدف الشبع الذاتى فقط دون التفكير فى الآخرين ومساعدتهم يورثهم الهمّ والغمّ والقلق؟ للأسف، أمثال هؤلاء يصبحون عبيداً للمال، ويكون همّهم الأول البحث عن المزيد للتمتع ببريقه فقط، حتى إنهم يصيرون جشعين وشرهين وأنانيين وطمّاعين. نستشف ذلك من القصة التى تروى أن رجلاً بخيلاً جداً أخفى الكنوز التى يمتلكها فى حفرةٍ عند جذع شجرة فى حديقته، وكان يذهب كل أسبوع إلى ذلك المكان ويحمل الكنوز للخارج حتى يتمتع برؤيتها لعدّة ساعات، ولسوء حظه جاء أحد اللصوص وسرق تعب وعَرَق السنين. وعندما ذهب البخيل إلى نفس المكان ليتأمل كنوزه كالعادة، لم يجدها ولكنه رأى حفرةً فارغة، فبدأ فى الصراخ من شدّة الصدمة، وعندما وصل إليه الجيران ليعرفوا سبب صراخه واستغاثته، تحققوا من الموقف، فطرح عليه أحدهم هذا السؤال: «هل استعملت هذه الكنوز ولو مرةً واحدة طوال حياتك الماضية؟» - أجاب البخيل: «أبداً، لكننى كنتُ أكتفى بالمجيء هنا كل أسبوع لأتأملها فقط». – «حسناً، ما كان يقدّمه لك الذهب لن يغيرّ شيئاً فى حياتك، إذاً تستطيع العودة أسبوعياً كعادتك لتتأمل الحفرة الخاوية وتكتفى بهذا». ما أكثر المتعبّدين للمال الذين يصل بهم الحال لبيع الدين بالدُنيا، فى سبيل الحصول عليه وجمعه والإكثار منه؟ وما أكثر الذين لا يشبعون من السعى وراء المال بهدف التمتع به لذاتهم فقط دون التفكير فى المحتاجين ومساعدتهم؟ أمثال هؤلاء يفقدون طعم السعادة الحقيقية ومعنى الحياة، لأن المال يغتصب منهم كل هذه النعم بعدما صاروا عبيداً له. كما أن سبب البغض والحقد والحروب يَنْجم دائماً عن حُب التملك والأنانية، وينتج عنهما العنف والسرقة والإساءة للآخر، حتى إن الإنسان الذى يلهث وراء المال نتيجة طمعه فقط، لا يشبع أبداً ويطلب المزيد منه. ولكن على النقيض من هذا، هناك الإنسان الذى يريد الحصول على المال ليستر حياته دون أن يصير عبداً له، ويتطلب منه هذا، إرادة صلبة وقناعة داخلية. ولا ننسى أن المال يمنحنا مظاهر الأشياء فقط لا جوهرها، وكما يقول الكاتب والمخرج المسرحى النرويجى Henrik Ibsen: «إن المال يمنحنا الطعام لا الشهية؛ والدواء لا الصحة؛ والمعارف لا الأصدقاء الأوفياء؛ والخَدَم المنتفعين لا المُخلصين؛ والمرح لا السعادة». لذلك يجب على الأثرياء أن يدركوا بأنهم ليسوا أسياداً على خيرات الله؛ ولكنهم وكلاء وموزعون هذه النعم، لأن كل ما يملكونه هو ملك لله وبركة منه، كما أن الله قادر على حرمانهم منه إن كانوا قُساة القلب مع المعوزين والمحتاجين، بينما الله يرزقهم ويبارك فيما يمتلكون عندما يشفقون على المحتاجين والفقراء لأنهم أخوة لهم. لكن إن امتنعنا عن إطعام الفقير، سنكون سبب جوعه وشقائه، وعندما نتوانى أو نتهاون فى مساعدة المريض المحتاج فنحن بذلك نشارك فى موته. كما أننا سنكون سبب حزن الله على ما نفعله من حرمان وتقصير فى حق المحتاجين. لذلك يجب علينا ألا ننسى أن الفقير المحتاج والمريض العاجز واليتيم وغيرهم هم أخوة لنا، وخير دليل على وجود الله فى حياتنا، لأن كل ما نقوم به نحوهم من خيرٍ وإحسان؛ إنما نعمله لشخص الله ذاته، وسيكافئنا عن كل ما نقدّمه للآخرين وسيعوضنا عن ذلك مئات الأضعاف، حتى وإن كان عمل الخير الذى نقوم به بسيطاُ ولا يكلفنا شيئاً. مما لاشك فيه أن الذين يحبّون الله ويعيشون حسب وصاياه، يسعون دائماً بكل ما لديهم من مال وطاقة ووقت لمساعدة المحتاجين، علاوة على ذلك أنهم يفضّلون عمل الخير على رفاهيتهم الشخصية. لذلك نجد الأثرياء الذين يقومون بمساعدة الغير وسد احتياجاتهم، يكنزون لهم كنوزاً لا مثيل لها فى السماء. طرحت إحدى المجلات هذا السؤال على قرّائها: «ما هو المال؟» ووعدت بجائزة كبرى لأفضل إجابة، وكان رد الفائز بالجائزة: «المال هو تذكرة دولية تمكّنك من الذهاب حيثما تشاء؛ إلا السماء، ويجعلك تحصل على كل شيء إلا السعادة». ونختم حديثنا بالكلمات الرائعة للقديس أغسطينوس: «ما تحتفظ به، أنت لا تربحه؛ بل تخسره».