إيمان كمال تكتب: عادل حمودة يكشف العالم السرى لـ«صلاح أبو سيف فى مذكراته»

مقالات الرأي



الكتاب يكشف الطفولة البائسة لطفل يتيم رغم أن والده على قيد الحياة

حكاية «شفاعات» الحقيقية فى بيت باريس.. ولماذا أصر على استبعاد عمر الشريف وضم شكرى سرحان لـ«شباب امرأة»

فى مقهى «لاباس» الشهير كانت لقاءات المخرج الكبير صلاح أبو سيف مع الكاتب الصحفى عادل حمودة والفنانين عادل إمام وأحمد زكى والناشر أمين المهدى، كان أبو سيف متربعا على القمة وقتها، فهو المخرج الكبير الذى قدم روائع الأفلام وكان الآخرون على عتبة النجاح والحلم، كانت نصائح أبو سيف لهم أن «النجاح سلم لا أسانسير» و«التواضع موهبة الكبار والغطرسة سلوك الصغار» و«ليس مهما أن تبدأ.. المهم أن تستمر».. نصائح كلها تكشف أننا أمام شخصية استثنائية نجح عادل حمودة أن يظهرها بهذا الشكل فى كتابه «مذكرات صلاح أبو سيف» والذى صدر مؤخرا عن دار «ريشة» للنشر.

حين تحمس صلاح أبو سيف لأن يتولى عادل حمودة تسجيل وكتابة مذكراته قال «إن حياتى ليست سينما فقط»، وهنا أدرك «حمودة» أنه لن يبتعد عن السياسة، فهو بالتأكيد ليس أمام مخرج تقليدى يقوم بتصوير النصوص المكتوبة كما هى، ولكن يصف «عادل حمودة فى «المذاكرات» بأنه كان أمام زعيم من زعماء الكاميرا الذين يحولون شاشة العرض إلى محاكمة للواقع الاجتماعى والاقتصادى والسياسى الذى نعيشه، جمهورها أكبر من جمهور القراءة والأحزاب، فأفلامه قدمت العديد من القضايا المهمة التى لا تزال تشغل الجمهور مثل حرية المرأة والفوارق الطبقية وعلاقة الجنس بالإحباط العام والتطلع الاجتماعى والصعود على جثث الآخرين والانتهازية السياسية.

مع الإعلان عن إطلاق مذكرات أحد المشاهير فالأمر لا يتوقف على نشر قصة حياته أو حتى مشواره مع الفن، بل يتفنن الكثيرون فى الضجة المصحوبة أحيانا بالفضائح أو نشر تفاصيل تخص علاقاته بالآخرين التى قد تصدم ذويهم.

لكن فى «مذكرات صلاح أبو سيف» نحن أمام مخرج من طراز مختلف بكل تأكيد، فنعيش من خلال اثنى عشر فصلا يحتويها الكتاب عوالم أبو سيف الإنسانية والفنية، نقترب منها ونكتشف الكثير من التفاصيل الثرية والمعلومات المهمة التى يكشف عنها عادل حمودة لأول مرة.

ندخل عالم أبو سيف المنظم جدا.. والبعيد عن تلك الفوضى التى تميز أغلب الفنانين، فالواقعية ليست سمة أعماله السينمائية لكنها سمة أصيلة فى شخصيته التى لا تعرف التجمل أو التزييف، بداية من طفولته الصعبة، فعلى الرغم من أنه ابن «عمدة» إحدى قرى الصعيد فى مصر، لكنه عاش محروما من حنان أب على قيد الحياة، وفشلت والدته التى تمردت على حياة الصعيد وقررت الحياة فى القاهرة فى الحصول على نفقة لطفلها، ولم تكن تملك أمه وقتها سوى نصيبها فقط من إيراد بيت الأسرة والذى كان ضيئلا، وقد ولدته أمه فى حارة «القسوة» فى حى بولاق وسميت بهذا الاسم وقتها لكونها مركزًا للتعذيب فى عصر المماليك وحتى حملة نابيلون، فكانت مركز القسوة الرسمية، ويبدو أن تلك القسوة انتقلت لحياة أبو سيف نفسه الذى عانى فى طفولته من أب لم يهتم بميلاده، حتى حينما أخبروه بأنه أنجب صبيا، فعاش فى معاناة وحرمان وفقر والذى كان كان الدافع والملهم له فى الكثير من الأفكار التى تناولتها أفلامه فكان حريصا على أن يظهر ذلك التفاوت الكبير بين الطبقات الاجتماعية فى مصر، ففى فيلمه «الأسطى حسن» الذى قدمه قبل ثورة 1952 كشف عن الظلم الاجتماعى والناتج فى الأساس من الظلم السياسى الذى يفرضه الاستعمار الأجنبى وقتها، والذى عاش تفاصيله وشاهد كيف كان يتعامل جنود الاحتلال مع الناس بعنف، تلك المرحلة شكلت كثيرا من وجدان صلاح أبو سيف وحياته وهو ما بدأ واضحا فى أفلامه، فقالت عنه الناقدة الألمانية أريكا رشتر «إن أفلام صلاح أبو سيف تميزت بإيجاد علاقة قوية بين رؤيته السياسية الذاتية وبين تيارات المجتمع وطبقاته المختلفة.. ورؤيته الذاتية هى فى نفس الوقت نتاج الواقع الشعبى الذى خرج منه وهو يستخدم هذه الرؤية فى تحليل وعرض وجهة نظره فى كل ما يحدث حوله من خلال الأفلام التى يقدمها».

فالقصة التى كتبها صلاح أبو سيف وهو لا يزال فى الصف الأول الثانوى حملت اسم «اليتيم» كانت تعبر عن ولد فى نفس مرحلته العمرية ويعانى من الحرمان فى كل شىء، وهى القصة التى قرر أن يرسلها لشركة «إيزيس» للإنتاج التى كانت تمتلكها عزيزة أمير، وظن أبو سيف وقتها بأنه سيصبح مؤلفًا، وقرر أن يترك الدراسة إلا أن والدته نصحته بأن يتعلم أولا فكيف يصبح مؤلفا وهو جاهل؟ فعاد مرة أخرى لمدرسته.

بعد انتهائه من الدراسة عمل لفترة فى بداية حياته فى الصحافة الفنية، حتى لعبت المصادفة دورها حين عمل كسكرتير إدارى فى شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، ووقتها استغل راتبه الكبير فى شراء مجلات وكتب السينما وتعلم الموسيقى وبدأ فى تكوين مكتبته السينمائية والموسيقية وتكوين فريق تمثيل من زملائه فى الشركة الذين حاولوا مساعدته للسفر لدراسة السينما فى أوروبا، ولكن كان اللقاء بعدها مع المخرج نيازى مصطفى الذى جاء إلى الشركة لتقديم فيلم عن شركات بنك مصر والتقى بصلاح أبو سيف الذى بدأ أول تجربة عملية له حين ساعد مصور الفيلم سامى بريل، بعدها ضحى أبو سيف بالوظيفة من أجل الانتقال للعمل فى السينما ليبدأ المشوار كمساعد مونتاج فى استوديو مصر.

وظل حلم دراسة السينما فى الخارج يراوده حتى سافر بالفعل فى بعثة إلى فرنسا وذلك فى مايو 1939، وظلت الشركة ترسل له راتبه وكل ما يلزمه وقتها من نقود، السينما كانت البداية له فى باريس حين دخل دور عرض ليصاب بصدمة بعد أن وجد السينما تعرض مشاهد جنسية، ليصاب بالهلع حتى ربتت امرأة يهودية مصرية على كتفه موضحة له الأمر.

وشهدت باريس أيضا تجربته الحية وقصته الحقيقية والتى قدمها فى فيلم «شباب امرأة» لكن قصته كانت فى باريس لكن بطل الفيلم انتقل من الريف إلى القاهرة، كما أن شفاعات بطلة الفيلم كانت صاحبة «سرجة» بينما كانت البطلة الحقيقية الأكبر منه هى صاحبة اللوكاندة التى كان يقيم بها، ووصف أبو سيف نفسه بـ«الفراشة التى سقطت فى طبق عسل ولم تكتشف أنه معرض فى الهواء إلا بعد أن كادت تغرق فيه»، فكانت تجربة مثيرة ومؤلمة وساذجة، فقد استغلت تلك المرأة شبابه حين شعر بسطوة المرأة الأكبر منه عليه، ووقع ضحية أساليبها فى اصطياد الضحايا ليقيم معها علاقة جنسية.

حين اقترح الموزع أن تقوم بالبطولة زوزو نبيل رفض أبو سيف الأمر لأنها لا تصلح للإغراء، ولأنه لم يتخيل سوى تحية كاريوكا فى شخصية شفاعات، وحين اقترح الموزع عمر الشريف بطلا اعترض أبو سيف لأنه لا يبدو مثل القفل، فكان شكرى سرحان هو الأنسب رغم أنه فى هذا الوقت لم يكن نجم شباك، فقرر صلاح أبو سيف أن يتم إدخال تعديلات على السيناريو لإسناد دور لشادية ثانوى وكانت وقتها نجمة شباك وقد وافقت شادية على ذلك.

فى المذكرات أيضا نكتشف كيف حدثت النقلة للواقعية لرغبة صلاح أبو سيف فى استعمال السينما فى النقد الاجتماعى وتصوير البيئة المصرية كما هى، ويقول أبو سيف أنه حين قرر الانتقال للواقعية رفض أفلامًا وصلت لـ17 فيلمًا وبقى بلا عمل وبلا نقود لمدة عام وكان قد تزوج وأصبح رب أسرة حتى عجز عن سداد إيجار شقته حتى قدم «لك يوم يا ظالم».

حكايات وقصص كثيرة يشهدها الكتاب الذى يروى من خلاله أيضا عن واقعة بيعه لسيارته ورهنه لحلى زوجته وحتى تبرع طباخه بأجره الشهرى وموافقة فاتن حمامة على تأجيل أجرها لبعد العرض من أجل تنفيذ فيلم «لك يوم يا ظالم»، وقائع وتفاصيل ثرية، فكتاب «مذكرات صلاح أبو سيف» لا يكشف فقط عن حياة المخرج الكبير الشخصية والسينمائية لكنه يرصد الكثير من الجوانب والأحداث والشخصيات التى أثرت فى تاريخ مصر فى فترات زمنية ممتدة.