تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان} الآية 100 من سورة التوبة

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 100 من سورة التوبة

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100)}

و(السابق) هو الذي حصل منه الفعل- بصدد ما هو فيه- قبل غيره، وكلنا والحمد لله مؤمنون، ومن أمنوا أولاً، ومن آمنوا بعد ذلك كلهم مؤمنون، لكنْ هناك أناس سبقوا إلى الإيمان، فهل كان سبقهم سبق زمان أم سبق اتباع؟ إن سبق الزمان يتحدد في الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ظن ظان أن المقصود بالسابقين هم الذين سبقونا سبق زمان، فقد يقول منا قائل: وما ذنبنا نحن وقد جئنا بعد زمانهم؟

ولذلك نقول: إنما السبق يعتبر من معاصر، أي: كان معهم أناس غيرهم وهم سبقوهم؛ ولذلك جاء القول: {مِنَ المهاجرين} ونعلم أن الذين هاجروا مع الرسول لم يكن كل مسلمي مكة، وجاء قوله: {مِنَ المهاجرين والأنصار} وأيضاً لم يكن كل الأنصار من أهل المدينة هم من السابقين.

وينحصر المعنى في الذين سبقوا إلى الإيمان في مكة، وسبقوا إلى النصرة في المدينة، هؤلاء هم {السابقون}.

وفي سورة الواقعة يقول الحق: {والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 10-12].

ثم يأتي من بعدهم في المرتبة: {وَأَصْحَابُ اليمين ما أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27].

ثم يحدد الحق هؤلاء فيقول: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 13-14].

ولذلك حينما يأتي من يقول: لن يستطيع واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تأخر عن عصر محمد صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى منزلة الصحابة؛ لأن الله قال: {والسابقون}، نقول له: لا، بل افطن إلى بقية قوله سبحانه: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين}، وهذا دليل على أن بعضاً من الذين جاءوا بعد زمان رسول الله صلى الله عليه سينالون المرتبة الرفيعة، وهكذا لم يمنع الحق أن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سينالون المرتبة الرفيعة، وهكذا لم يمنع الحق أن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة مَنْ يصل إلى منزلة الصحابة.

وقد طمأن النبي صلى الله عليه وسلم الناس الذين لم يدركوا عهده حين قال: (وددت أنِّي لقيت إخواني). فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أو ليس نحن إخوانك؟. قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني).

وهذا قول صادق من المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن منا من تنحصر أمنيته في أن يحُجَّ ويزور القبر الشريف. ويضيف النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أحبابه: (عمل الواحد منهم كخمسين). قالوا: منهم يا رسول الله أم مِنَّا؟ قال: بل منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعواناً، وهم لا يجدون على الخير أعواناً وهذا ما يحدث في زماننا بالفعل.

ولكن من هم السَّابِقُونَ المقصودون في الآية التي نحن بصددها؟

{والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين} ونعلم أن السابقين من المهاجرين هم أهل بدر، الذين دخلوا أول معركة في الإسلام، مع أنهم خرجوا من المدينة، لا ليشهدوا حرباً، ولكن ليعترضوا عيراً تحمل بضائع، ويرجعوا بالغنائم. ومع ذلك دخلوا الحرب، لا مع القوافل التي ضمَّتْ العير والحراس والرعاة، ولكن دخلوا الحرب مع النفير، وهم من جاءوا ونفروا من مكة، وهم صناديد قريش. وهكذا كانت منزلة أهل بدر، أنهم من سبقوا إلى الجهاد في أول معركة للإسلام.

ولذلك حين وشى حاطب بن أبي بلتعة بغزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فجاء به صلى الله عليه وسلم وقال له: (ما الذي حملك على هذا؟) وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفتح مكة دون أن يعلم أحد؛ حتى لا يقاتل المسلمون القادمون بعضاً من المؤمنين الموجودين في مكة ولم يعرفهم أحد؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم المفاجأة في الفتح؛ حتى تهبط الشراسة الكفرية، لكن حاطب بن أبي بلتعة كتب خطاباً إلى بعض أهل قريش، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه ومن معه: (اذهب إلى مكان اسمه روضة خاخ في الطريق بين مكة والمدينة، فستجد ظعينة(مسافرة) معها كتاب إلى أهل مكة، خبأته في عقيصتها).

فلما ذهب علي- رضي الله عنه- ومن معه يبحثون عن المرأة في الموضع الذي ذكره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوا المرأة ولكنها أنكرت أن معها كتاباً، فهددوها؛ فأخرجته من عقيصتها؛ فوجده من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من مشركي قريش. وعاد به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأحضر النبي صلى الله عليه وسلم حاطبا، وقال له: (ما حملك على هذا يا حاطب؟) قال له: يا رسول الله: أنا لصيق بقريش ولي فيها أهل ومال، وليس لي بها غزوة؛ فأردت أن أتخذ يداً عند قريش يعرفونها لي؛ فيحافظوا على أهلي وعلى مالي، وعرفت أن ذلك لا يضرك شيئاً وأن الله ناصرك. وما فعلته ينفعني ولا يضرك، قال: (صدقت). وأراد عمر- رضي الله عنه- أن ينزل عله بسيفه، فقال النبي صلى الله عيله وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلَع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) لأن أهل بدر دخلوا المعركة بدون عُدَّة، وبدون استعداد، ومع ذلك هانت نفوسهم عليهم، فكأن الله قال: أنتم عملتم ما عليكم، وقد غفرت لكم ما تفعلونه من السيئات.

إذن: فالسابقون من المهاجرين هم أهل بدر وأهل الحديبية، وهم أهل بيعة الرضوان الذين رُدُّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، ثم عقد النبي صلى الله عليه وسلم مع القرشيين المعاهدة.

والسابقون من الأنصار هم من جاءوا للنبي في مكة، وأعطوا له العزوة وأعطوا له الأمان والعهد، وكانوا اثني عشر في بيعة العقبة الأولى، وخمسة وسبعين في العقبة الثانية. هؤلاء هم السابقون، وأضاف الحق إليهم {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} أي: من يأتي من بعدهم.

وسيدنا عمر له وقفة في هذه الآية، فقد رضي الله عنه يقرأها هكذا: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) أي: يعطف كلمة الأنصار على (السابقون) وكانت قد نزلت: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} ويكمل سيدنا عمر بعد (والأنصار) (الذين اتبعوهم بإحسان) أي: أنه جَعل (الذين اتبعوهم) صفة للأنصار.

وجاء زيد بن ثابت ليقول لسيدنا عمر: (قرأناها على غير هذا الوجه يا ابن الخطاب). قال: فماذا؟ قال: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم}.

فقال عمر: ابعث إلى أبيّ بن كعب، وكان ابن كعب حجة في القرآن فقال أبيّ: هكذا سمعتها- كا قال زيد- من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تبيع القَرَظ في البقيع. أي أن أبيّ بن كعب كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم بينما عمر يبيع القرظ، فضحك عمر وقال: لو قلت شَهِدت أنت وغِبْنا نحن، وقرأها عمر من بعد ذلك كما نزلت.

{والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} خصوصاً أن سيدنا أبيّاً البصير بالقرآن جاء بأكثر من دليل من غير هذه الآية فقد قال الحق: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ...} [الجمعة: 3].

وقوله الحق في سورة الحشر: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان...} [الحشر: 10].

وهي معطوفة أيضاً.

وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100].

وفي هذا القول ما يطمئن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يَأتِ لنا فقط بخبر الفئة السيئة من المنافقين من العرب، والمنافقين من الأعراب، ولكنه أوضح لنا أن هناك أناساً وصلوا لنا جمال هذا الإيمان.

ويقول الحق بعد ذلك: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب...}.

تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 100 من سورة التوبة