أحمد عبدالوهاب يكتب: علماء ربّانيون.. فضيلة الشيخ أحمد برباش

مقالات الرأي

الشيخ أحمد برباش
الشيخ أحمد برباش


من أكثر ما تضررت به هذه الأمة في أزمتها الأخيرة مع كورونا هي رحيل الصالحين من العلماء الربّانيين مع انشغال العالم بما حل من أزمات. بات الأمر خطيرًا على العلم والعلماء بذهاب علمهم وكما قال صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حتى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا" البخاري ص 100

من أولئك العلماء الربّانيين العالم الجليل فضيلة الشيخ أحمد برباش الذي رحل في ذمة الله عن دنيانا يوم الجمعة العاشر من يوليو لسنة 2020 ميلاديًا الموافق التاسع عشر من ذي القعدة 1441هجريًا.

والشيخ برباش معروف بين أهل الفيوم جميعا بالصلاح والفلاح والإخلاص والتقوى والعلم الغزير النافع، ونحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله من أحد من المعروفين بين أهل السماء، لكن لمن لا يَعرف الرجل من خارج بلدته، أوجز في هذه الكلمات التي لن تفي الرجل حقه، ولكن حسبنا أن تُعرف آثاره الصالحة كقدوة حسنة ونموذج يقتدى به لمن لم يسمع به.

كان الشيخ رحمه الله من رجالات الأزهر وقياداته المخلصين لله عز وجل ولنصرة دينه، عمل بالكويت في مكانة مرموقة في القطاع التعليمي والدعوة ثم عاد طواعية إلى بلاده رافضًا كل الإغراءات المالية لبقاءه هناك ليواصل رسالته مع الأزهر حاملًا على عاتقه رسالته الربّانيه وهي تفقيه الناس في أمور دينهم.

شغل رحمه الله منصب مدير عام التعليم الإبتدائي بمنطقة الفيوم الأزهرية فلم يدخر جهدًا بعلمه ووقته للنهوض بالقطاع التعليمي. كان جادًا مُقسطًا في عمله، لا يخاف في الله لومة لائم، مشجِّعًا للعلم والعلماء خاصة من الشباب، فساهم رحمه الله في نهضة قطاع التعليم الازهري بمحافظة الفيوم فترة عمله حتى أحيل للمعاش وهو يتمنى الخير والسداد لمن خلفه ناقلًا كل خبراته للشباب من بعده.

مسيرة ملهمة
وبعد التقاعد لسن المعاش لم يتقاعد فضيلته عن العطاء، بل زاد نشاطه المجتمعي والدعوي. وبرغم أن الرجل لم تكن تعنيه المناصب فقد كان زاهدًا فيها، إلا أنه ونظرًا لخبرته الكبيرة وإخلاصه وبلائه الحسن فقد تم الاستعانة به بوصفه مستشارًا دينيًا لمحافظة الفيوم. كان رحمه الله بعيدًا عن أيّة مهاترات سياسية تعيقه عن أداء رسالته وهي فهم الدين وتطبيقه بين الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. كان يؤمن أن الدين ليس فقط بالحفظ والاستظهار ولكن بالفهم والتطبيق في شتى مناحي الحياة فالدين المعاملة.

كان فقيهًا حكيمًا حليمًا شاكرًا في السراء صابرًا في الضراء، ذا يقينٍ بأن أمر المؤمن كله خير. كان رحمه الله عالمًا ربانيًا عاملًا بمقتضى علمه، حريصًا على تعلم وتعليم العلمِ مصداقا لقوله تعالى: "..وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ.." [آل عمران: 79]. 

دروس وندوات
لم ينقطع فضيلة الشيخ الجليل عن أداء الدروس والندوات الدينية المجانية في كل مكان يمكنه الوصول اليه، يفقِّه الناس في أمور دينهم ودنياهم بأمثلة عملية يرونها ويلمسونها. وكان اسم الرجل كافيًا للحكم على أي قطاع يشغله أو مجلس يحضره بالنزاهة والسمو والرقي.

كان رحيمًا بالأطفال والكبار، يحادث الجميع مع اختلاف طبقاتهم وألوانهم وتوجهاتهم. وكان رحمه الله من أولئك الذين"يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ" فكان ينفق عطاء من لا يخشى الفقر ولا يتبع ما ينفق منًا ولا أذى، بل يبتغي مرضاة الله في كل ما يصنع عاملا بقوله تعالى: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا" وقد أطعم الرجل ليس فقط من ماله ولكن من علمه ومن وقته ومن صحته لوجه الله عز وجل ولنصرة دينه وقيمه الحنيفة.

كان الشيخ برباش شديدًا في الحق ضد الظلم، ليِّنًا رحيمًا حليمًا على الضعيف والفقير، لا يغضب إلا لله أو إذا انتهكت حرمات الله. إذا ما نظرت اليه تشعر بهيبة في غير خوف بل إجلال وتعظيم، إنها هيبة العلم مع الحلم.

كان قلبه رحمه الله معلق بالمساجد ليس فقط للعبادة ولكن لنفع الناس في أمور دينهم ودنياهم فلا ينسى الكثير من أهل الفيوم جلساته بين المغرب والعشاء تطوعا لشرح سنة نبيه الكريم والمساعدة في حل بعض القضايا والمشاكل لمن حوله. ولا تُنسى أبدًا جلساته بعد صلاة الفجر في المساجد يبدوؤها بكلمة قصيرة يعظ الناس بما يفيدهم حقًا ثم قارئا للقرآن الكريم ومعلمًا لمن حوله حتى تشرق الشمس فيصلي الضحى ثم يعود لبيته ولأهله وهو من تجاوز وقتها الخمس والستين من العمر. 

كان فضيلته ساعيًا في كل أوجه الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا. يمشي مصلحًا بين الناس، مجمّعًا لهم في الخير ومفرّقا لهم في الشر. وقد بارك الله له في وقته فوهبه ملكة إدارة تنظيم الوقت والمثابرة على فعل الخيرات حتى بعد خروجه على المعاش بأكثر من الشباب حديث التخرج. 

جبر الخواطر
كان ذا ثقافة كبيرة، يحدثك في التعليم والاقتصاد ونحوه، بل وفي الكرة كذلك جبرًا لخواطر المهتمين بها، غير أنه يربط دائما حديثه بعمل نافع مثل ممارسة الرياضة وليس فقط مشاهدتها. كان يشجع كل من حوله-خاصة من الشباب- على العلم والسعي للعمل والأخذ بأسبابه ويعظم من شأن الوظائف الصغيرة رفعة من شأن أصحابها وجبرًا لخواطرهم.

رحل الشيخ برباش وترك خلفه ما علمّه للأجيال من بعده من قرآن وسنّة وصدق الرسول الكريم اذ يقول "... وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ..".

ونسأل الله أن يجعل ثواب ما علّم فضيلته ودرّس في ميزان حسناته. رحل الشيخ الجليل وقد جاهد أن يطرق كل أبواب الخير في حياته من "صلاة وصيام وصدقة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإغاثة ملهوف ونصرة ضعيف وإصلاح بين الناس......" فنسأل الله أن يكون من أولئك اللذين تنادي عليهم كل أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.

بكت الفيوم جميعها على فراق العالم العامل بعلمه المصلح بينهم النافع لهم وفقد الأزهر عالمًا جليلًا قلما يجود الزمان بمثله إخلاصا وخُلقا. وقد بدت أنوار خُلُقه على خِلْقته فوهبه الله وجها نورانيًا وضّاء كأنك تنظر لرجل من أهل السماء.

فاللهم ارحمه بفضلك وعفوك وجودك وكرمك واربط على قلوبنا واخلف علينا بمن يجدد دينك ويسعى بين عبادك بالخير آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر. والله إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقكم فضيلة الشيخ الجليل والأب الحنون لمحزنون.