عادل حمودة يكتب: كتاب جون بولتون الجديد وصمة عار فى جبينه

مقالات الرأي



رؤساء أمريكا يثبتون رجولتهم بالحرب إلا ترامب

الكتاب ينفجر تشددًا وتطرفًا يتناسب مع معتقدات مؤلفه 

وصف الرئيس الحالى بالجاهل الذى يضع السياسات بالفطرة ويعتبر البيت الأبيض مكانًا ينضح بالقذارة والاجتماعات التى تعقد فيه تشبه معارك الصبية

كيف يتشابه عقل الرئيس مع سريره؟.

سؤال ساخر فرض نفسه على عدد من الرؤساء الأمريكيين مثل ويليام ماكينلى وجورج بوش ودونالد ترامب.

وإجابة السؤال: كلاهما لابد أن يرتبه له أحد قبل أن يستعمله.

السبب أن هذا الطراز من سادة البيت الأبيض رجال أعمال بلا تجربة سياسية ناضجة وبلا خلفية ثقافية مستوعبة ورغم اعتماده الكامل على مساعديه فإنه يفشل غالبا فى اختيارهم والحفاظ على ودهم واحترامهم.

آخر دليل على ذلك كتاب جون بولتون مستشار ترامب للأمن القومى: الغرفة التى شهدت الأحداث.

الكتاب يسب ترامب ويصفه بأنه جاهل بأبسط حقائق الجغرافيا.. يضع سياساته الخارجية بالفطرة.. يعتمد فى قراراته على علاقاته بالقادة الأجانب ومهارته فى العرض التليفزيونى.. ويؤمن بالثقة لا بالخبرة ولا تتجاوز قراراته رغبته فى التمسك بمنصبه فترة رئاسية ثانية.

ويوسع بولتون دائرة السباب ليصيب البيت الأبيض الذى يعتبره مكانا سيئا.. مختلا.. ينضح بالقذارة.. والاجتماعات التى تعقد فيه تشبه معارك الصبية.

لكن ما فى الكتاب من إهانات للرئيس ورجاله ومقر حكمه سبق أن نشرت فى غالبية الكتب التى صدرت عن ترامب بل ربما كانت الإهانات هذه المرة أقل والأهم أنها لم تقترب من الفضائح الخاصة التى تنال عادة من ترامب كلما جاءت سيرته.

على أن ترامب حاول جاهدا منع نشر الكتاب بدعوى أنه يكشف أسرارا تمس الأمن القومى.. ولكنه.. فشل فى مسعاه أمام القضاء وخرج بولتون فائزا بمليونى دولار حصل عليها من دار النشر سيمون أند شيستر لم يكن ليحلم بها.

والحقيقة أن الكتاب يشبه سلاحا فاسدا يرتد رصاصه إلى مطلقه ولا يصيب الهدف إلا بشظايا متناثرة.

الكتاب يتفجر تشددا وتطرفا وتعنتا بما يناسب معتقدات مؤلفه وبما يدينه.

إن بولتون واحد من الصقور الشرسة فى مجموعة المحافظين الجدد التى سيطرت على عقل جورج بوش ودفعته إلى غزو أفغانستان والعراق حيث خسرت الولايات المتحدة فى الحربين ستة تريليونات دولار ونحو عشرين ألف قتيل.

وكان المحافظون الجدد وراء حملات التحريض وحرضته على معاداة العرب والمسلمين وشن حربا صليبية عليهم وفى الوقت نفسه اعتبرت إسرائيل معجزة الرب التى يجب السجود لها.

وجدت تلك الحركة السياسية الداعية للتدخل فى شئون الدول بالقوة فرصتها للظهور والسيطرة بعد هجمات سبتمبر.

بدأت تلك الحركة السياسية الساعية إلى التدخل فى شئون الدول الأخرى بالقوة فى ستينيات القرن العشرين ولكنها لم تنل فرصتها فى التأثير إلا بعد هجمات سبتمبر.

لكن بولتون لم يكن فى أهمية رموزها مثل ديك تشينى (نائب الرئيس) أو كونداليزا رايس (وزيرة الخارجية) أو دونالد رامسفيلد (وزير الدفاع) ورودى كيوليانى (عمدة نيويورك) وجين كيركياتريك (مندوبة الأمم المتحدة) وغيرهم.

وما أن وصل براك أوباما إلى البيت الأبيض حتى توارى نفوذ المحافظين الجدد وانقرضت سيرتهم بل نفذت الولايات المتحدة سياسة مغايرة تماما لسياستهم وسعت لسحب قواتها المنتشرة من بغداد إلى كابول.

على أن بولتون القادم من وراء غبار التاريخ تصور أنه بتعيينه مستشارا للأمن القومى سيعيد مجدهم الملعون وعندما لم يستجب له ترامب فقد أعصابه وأطلق لسانه ونشر كتابه.

لكننا لن نفهم ما قال إلا أن نفهم عقلية جماعته.

يؤمن المحافظون الجدد بأن الحرب الوسيلة الوحيدة الفعالة لبقاء الإمبراطورة الأمريكية متربعة على عرش الدنيا.

بالحرب حقق جورج واشنطن استقلال الولايات المتحدة.

وبالحرب حقق إبراهام لينكولن وحدة البلاد شمالا وجنوبا وشكل الدولة الحديثة.

وبالحرب العالمية الأولى غادرت شواطئها إلى ميادين النار لتخرج منها فائزة بمستعمرات البرتغال وهولندا القريبة منها فى أمريكا اللاتينية.

وبالحرب العالمية الثانية بدأت عهدا إمبراطوريا جديدا بعد أن شاخت بريطانيا وفرنسا وعجزتا عن سداد تكاليف البقاء فى مستعمراتهما.

ومنذ ذلك الوقت حسب هيكل فى كتابه: الإمبراطورية الأمريكية لم تتوقف عجلة الحرب الأمريكية بل إن كل رئيس أمريكى كان يعرف أن مكانته بين ساسة بلاده وفى تاريخها لا تكتمل إلا بأن تكون له حربه الخاصة يثبت فيها رجولته ويظهر للشعب الأمريكى أنه وفى لعقيدته القائمة على العنف.

خاض هارى ترومان حروبا ساخنة فى كوريا واليونان وإيران.

ورغم أن دوايت أيزنهاور عرف مآسى الحروب بصفته جنرالا فإنه اختار أسلوب الانقلاب بالمخابرات لا بالسلاح وذلك حدث ضد حكومة مصدق فى إيران وضد حكومة أربينز فى جواتيمالا ليبدأ العهد الذهبى لوكالة المخابرات المركزية.

وكان على خليفته أن يثبت رجولته بالحرب فى خليج الخنازير ضد كوبا وعندما فشل فتح باب التدخل العسكرى الأمريكى فى فيتنام.

وبعد اغتياله أكمل ليندون جونسون رئاسته ليتمارى فى حرب فيتنام ثم كانت ذروة حروبه الخفية دوره فى هندسة حرب يونيو 1967 لصالح إسرائيل وضد العرب وأولهم مصر.

ورغم أن جيمى كارتر حصل على جائزة نوبل للسلام إلا أنه سلح التنظيمات الإسلامية فى حربها ضد الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان.

وأثبت رونالد ريجان رجولته بإنزال جنود المارينز على شواطئ الصومال باسم الإنسانية ثم هجرها خلفه بيل كلينتون الذى أثبت رجولته بموجات من قذائف الصواريخ موجهة إلى بغداد والخرطوم وبيت أسامة بن لادن فى ضواحى قندهار.

ثم جاء الدور على جورج بوش الابن ليثبت رجولته بصخب السلاح وحشد القوات والتهديد بالحرب.

كان بولتون واحدا من الأصوات التى حرضت بوش على الحرب وإن كان صوته فى ذلك الوقت خافتا أقرب للهمس لضعف أهميته ولبعده عن المجموعة المؤثرة فى القرار.

ولكن بعد نحو 15 سنة تصور بولتون أن الفرصة سانحة ليعيد مجد جماعته التى طواها النسيان بتعيينه مستشارا للأمن القومى فى 9 إبريل 2018 بعد أن وسط طوب الأرض ليختاره ترامب للمنصب.

عرض بولتون نفسه على ترامب وزيرا للخارجية أو نائبا لوزير الخارجية أو مديرا للمخابرات الوطنية ولكنه فوجئ بتعيينه مستشارا للأمن القومى وجاء القرار فى تغريدة من ترامب.

قبل القرار هنأ بولتون ترامب على انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ وحرض على توجيه ضربة عسكرية إلى إيران ليحظى بدعم من الأمريكيين الموالين لإسرائيل من اليهود والإنجيليين وهم من رشحوه لمنصبه.

لكن ترامب لم يكن متحمسا لإثبات رجولته بالحرب بل بوسائل أخرى بل آمن بأن بلاده القوى العظمى لم تنتصر فى حرب من الحروب التى خاضتها وسعى جاهدا لتنشيط الاقتصاد وزيادة الاستثمارات وخفض معدل البطالة واعتمد فى ذلك على اتصالاته الشخصية بقادة الدول الغنية مثل السعودية.

لم يوافق ترامب على ضرب إيران وأعلى خيل ركبها جعلته يلغى الاتفاق النووى معها ليعيد العقوبات الاقتصادية بتجميد أصولها المنتشرة فى العالم بقيمة 150 مليار دولار.

وفى الوقت نفسه لم يمانع فى لقاء وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف بطلب من الرئيس الفرنسى إيمانول ماكرون فى اجتماعات خارجية مجموعة السبع لكن تدخلت إسرائيل لمنع اللقاء وفى الوقت نفسه بدا واضحا أن بولتون على خلاف ترامب سوف يساند إسرائيل إذا ما وجهت ضربة عسكرية إلى إيران.

كان ترامب قد اكتفى بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ووضع ما سمى بـ«صفقة القرن» واستجاب لبولتون بإيقاف ما تدفعه واشنطن لوكالة غوث اللاجئين (400 مليون دولار) التى يستفيد منها الفلسطينيون.

وتكرر الموقف المتشدد لبولتون مع كوريا الشمالية ولم يكن موافقا على أن يلقى ترامب رئيسها كيم جونج أون فى عام 2018.

بل واحتج بولتون على الهدية التى أرسها ترامب إلى كيم وهى أسطوانة مدمجة مسجل عليها أغنية روكيت مان (رجل الصواريخ) للمغنى البريطانى أيلتون جون.

كان بولتون يريد إشعال النار بينما لم يشأ ترامب التورط فيها مكتفيا بتصريحات وتغريدات إما ساخنة أو ساخرة.

المرة الوحيدة التى أجبر فيها على استخدام القوة كانت ضد سوريا عندما رد على استخدام نظامها للأسلحة الكيماوية ضد شعبها وحدث ذلك بعد ضغوط واضحة من بريطانيا وفرنسا.

إن من المؤكد أن ترامب رئيس عنصرى يكره السود والملونين والمهاجرين والمسلمين ويمشى مغمض العينين وراء رغبات إسرائيل ويقايض السياسة بالثروة ويوصف بالفاشية ولكن من المؤكد أيضا أنه يكره الحروب ويرى أن تكلفة الدم فيها أكبر من عوائد المال.

ويمكن القول إن اختياره بلتون مستشارا للأمن القومى يرسم له السياسة الخارجية كان خطأ فادحا وإن سارع بتصحيحه بعد نحو العام.

إن كتاب بولتون يدينه قبل أن يدين ترامب ولكنها شهوة الانتقام التى تملكت رجلاً تجاوز السبعين من عمره خرج من القبر ليثبت رجولته.