مى سمير تكتب: كيف تدخلت «CIA»فى انتخابات دول العالم خلال السنوات العشرين الأخيرة

مقالات الرأي



من ضخ الأموال بشكل مباشر إلى التلاعب بوسائل الإعلام 

يميل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى الرد على الأسئلة المتعلقة بتدخل حكومته فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 بمزيج من الإنكار وشن هجوم مضاد، حيث زعم فى يونيو 2017، أن الولايات المتحدة هى من تتدخل بنشاط فى الحملات الانتخابية بمختلف أنحاء العالم، لكن تدخل المخابرات الأمريكية فى الانتخابات بمختلف الدول ليس مجرد ادعاءات روسية كما يؤكد الصحفى الأمريكى ديفيد شيمر فى تحقيق استقصائى نشرته مجلة فورين أفيرز، وأشار شيمر إلى أنه من كييف إلى بروكسل إلى لندن أخبره المسئولون الحكوميون أنهم يفترضون أن وكالة المخابرات المركزية السى آى إيه تتدخل بشكل متكرر فى الانتخابات بالخارج.

حسب التحقيق فإن هذا الادعاء صحيح إلى حد كبير، وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت تراجعا فى التدخل الأمريكى بالانتخابات، وكانت أول عملية سرية لوكالة المخابرات المركزية على الإطلاق عملية تستهدف التلاعب بانتخابات إيطاليا عام 1948، حيث نشر ضباط المخابرات الأمريكية الدعاية، وقاموا بتمويل مرشحهم المفضل، ونظموا المبادرات الشعبية - كل ذلك لصالح تيار الوسط الإيطالى فى مواجهة اليسار- بعد أن خسر الحزب الشيوعى الإيطالى.

وأصبحت عملية عام 1948 نموذجاً يتكرر استخدامه من قبل المخابرات الأمريكية فى مختلف دول العالم، كما يؤكد ديفيد روبارج، كبير المؤرخين بالمخابرات الأمريكية، ومن شيلى إلى السلفادور واليابان، استهدفت وكالة المخابرات المركزية والمخابرات الروسية الانتخابات الديمقراطية فى جميع أنحاء العالم، وتلاعب عملاء المخابرات بالأصوات بشكل مباشر، كما تلاعب آخرون بالرأى العام، وبشكل عام صممت جميع هذه العمليات للتأثير على نتائج الانتخابات.

بعد ذلك، انتهت الحرب الباردة، وأصبحت الأهداف المتعارضة لعمليات موسكو وواشنطن الانتخابية - سواء نشر أو احتواء الشيوعية- قديمة أو بمعنى أصح عفى عليها الزمن، منذ ذلك الحين، تدخلت المخابرات الروسية فى العديد من الانتخابات الأجنبية، ليس من أجل تطوير أيديولوجية ولكن من أجل خدمة مصالحها، ولكن ماذا عن وكالة المخابرات المركزية؟

يؤكد شيمر أنه على مدى العامين الماضيين، قابل أكثر من 130 مسئولا لمناقشة تاريخ التدخل الأمريكى فى العملية الانتخابية والجهود الخارجية للتلاعب بأصوات العملية الديمقراطية، تضمنت المقابلات التى أجراها ثمانية لقاءات مع مديرى وكالة المخابرات المركزية السابقين والعديد من ضباط وكالة المخابرات المركزية، بالإضافة إلى مديرى المخابرات الوطنية، ووزراء الخارجية، ومستشارى الأمن القومى، وجنرال فى المخابرات السوفياتية، والرئيس الأمريكى السابق.

علم شيمر أنه خلال القرن الحادى والعشرين، درس كبار مسئولى الأمن القومى بواشنطن إمكانية استخدام وكالة المخابرات المركزية للتدخل فى الانتخابات الأجنبية مرتين على الأقل، إحدى الحالات فى صربيا عام 2000 - تحول النقاش إلى عمل، حيث أنفقت وكالة المخابرات المركزية ملايين الدولارات فى العمل ضد الطاغية سلوبودان ميلوسيفيتش، فى الجانب الآخر فى العراق عام 2005، وفى كلتا الحالتين، قام صانعو السياسة فى الولايات المتحدة بتقييم الفوائد المحتملة للعمل السرى مقابل المخاطر المتصورة.

1- صربيا 

عام 2000، تدخلت المخابرات الأمريكية فى صربيا عندما كان الرئيس اليوغوسلافى ميلوسيفيتش يتنافس على إعادة انتخابه، وكان ميلوسيفيتش يمثل أشياء كثيرة من وجهة نظر الولايات المتحدة - شيوعى متحالف مع موسكو، وقومى صربى، ومتهم بالعديد من انتهاكات حقوق الإنسان، فى منتصف التسعينيات، أطلق حملة تطهير عرقى فى البوسنة والهرسك، بعد بضع سنوات، فعل الشىء نفسه فى كوسوفو-، تحرك حلف الناتو فى عام 1999 إلى شن حملة جوية ضد قوات ميلوسيفيتش. حسب ليون بانيتا، رئيس موظفى الرئيس الأمريكى بيل كلينتون من 1994 إلى 1997، كان ينظر إلى ميلوسيفيتش على أنه شخص سيئ وسوف يقلب هذا الجزء من العالم رأسا على عقب إذا لم تتخذ خطوات لإبعاده. 

قدمت انتخابات عام 2000 مثل هذه الفرصة، من منتصف عام 1999 إلى أواخر عام 2000، وأنفقت المنظمات الأمريكية العامة والخاصة ما يقرب من 40 مليون دولار على البرامج الصربية، ليس فقط لدعم معارضة ميلوسيفيتش ولكن أيضا لتمويل وسائل الإعلام المستقلة والمنظمات المدنية والمبادرات الانتخابية، وبما أن وزارة الخارجية، ووكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (USAID)، والمنظمات غير الحكومية الممولة من الولايات المتحدة أثرت على الانتخابات الصربية بشكل علنى، فإن وكالة المخابرات المركزية فعلت الشىء نفسه لكن فى السر، حسب جون سافير أنه بين عامى 1991 و 2014، عندما كان يعمل كضابط عمليات فى وكالة المخابرات المركزية، كان يعلم بعملية واحدة ناجحة لتدخل المخابرات الأمريكية فى الانتخابات: فى صربيا عام 2000، مشيرا إلى أنه بعد إخطار كلينتون الكونجرس، ذهبت وكالة المخابرات المركزية إلى العمل من أجل دعم وتمويل وتقديم المساعدة لمرشحين معارضين محددين.

وأوضح سافير، الذى أصبح رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية فى صربيا بعد الانتخابات مباشرة، أن الوكالة وجهت بالتأكيد ملايين الدولارات إلى الحملة المناهضة لميلوسيفيتش، وذلك فى الغالب من خلال الاجتماع مع مساعدين رئيسيين لقادة المعارضة الصرب خارج حدود بلادهم وتوفير الأموال النقدية السائلة لهم.

وأكد كلينتون أنه أذن لوكالة المخابرات المركزية بالتدخل فى انتخابات عام 2000 لصالح خصوم ميلوسيفيتش، كما اعتقد الرؤساء الأمريكيون فى حقبة الحرب الباردة أنهم قادرون على تعزيز الديمقراطيات الأجنبية من خلال تقويض المرشحين الشيوعيين، واعتقد كلينتون أنه يمكنه تعزيز الديمقراطية الصربية من خلال العمل ضد ميلوسيفيتش، حيث قال كلينتون لشيمر: كان الرجل مجرم حرب.

فى صربيا، كان تركيز وكالة المخابرات المركزية على التأثير على العقول بدلا من تغيير بطاقات الاقتراع. وأوضح كلينتون: لم نقم بتزوير التصويت ولم نكذب على الناخبين عن قصد لحملهم على دعم الأشخاص الذين كنا نأمل فى فوزهم. وبدلا من ذلك، قدمت وكالة المخابرات المركزية الأموال وأنواع أخرى من المساعدة لحملة المعارضة.

عرف قادة الكونجرس عن هذه الخطة السرية وقدموا الدعم اللازم لمثل هذه العملية السرية، وذكر ترينت لوت، زعيم الأغلبية فى مجلس الشيوخ، أنه عندما تم اطلاعه على عملية وكالة المخابرات المركزية، وأيدها بكل إخلاص، لكن هل سيكون ذلك كافيا؟ فمع اقتراب الانتخابات، كان كلينتون قلقاً من أن ميلوسيفيتش سوف يتلاعب بالنتائج لصالحه، وأخبر فلاديمير بوتين، الرئيس الروسى الجديد قبل أسبوعين ونصف الأسبوع من التصويت، وفقا لنسخة سرية من حديثهم تم الكشف عنها مؤخرا: هذه الانتخابات ستكون مهمة، لكنها ربما لن تكون نزيهة.

سعت منظمات تعزيز الديمقراطية الأمريكية، التى تشارك مخاوف كلينتون، إلى ضمان عدم تمكن ميلوسيفيتش من تزوير عدد الأصوات. وقامت إحدى المنظمات غير الحكومية الممولة من الولايات المتحدة بتدريب أكثر من 15 ألف ناشط لمراقبة أماكن الاقتراع. وفى يوم الانتخابات، قام أعضاء المعارضة برفع الأصوات إلى جانب المسئولين الحكوميين. فى النهاية خسر بشكل ساحق. اندلعت احتجاجات كبرى. واضطر ميلوسيفيتش، غير القادر على قمع ثورة شعبية، إلى الاستقالة.

يفتخر عملاء المخابرات الأمريكية بدورهم فى هذه الانتخابات. فى المقابل حصدت المخابرات الأمريكية ثمار دعم المعارضة . حسب عميل المخابرات الأمريكية سافير: استمر العديد من اللاعبين الرئيسيين الذين أصبحوا شخصيات بارزة فى الحكومة اللاحقة فى الاجتماع معنا واستمروا فى إخبارنا بأن جهودنا هى التى أدت إلى نجاحهم. 

2- العراق

فى عام 2004، كان الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش على وشك السماح بعملية أخرى من هذا القبيل. تكشفت القصة فى غرفة العمليات بالبيت الأبيض كيف قام مسئولو الأمن القومى بدراسة اقتراح يتناول تدخل وكالة المخابرات المركزية فى الانتخابات العراقية.

فى مارس 2003، غزت الولايات المتحدة العراق من أجل الإطاحة بصدام حسين. وسقطت حكومة صدام خلال أسابيع، لكن لم يتم العثور على أسلحة الدمار الشامل التى زعمت أمريكا وجودها بالعراق. وجاهد بوش، الذى يكافح لتبرير الحرب، من أجل تغيير النظام السياسى فى العراق.

يقول أرتورو مونيوز، ضابط كبير فى عمليات وكالة المخابرات المركزية آنذاك: بالنسبة إلى حكومة الولايات المتحدة فى ذلك الوقت، كان من المهم للغاية إجراء انتخابات حرة ونزيهة لأن هذا يبرر بالفعل الغزو. طالما أننا لم نجد أسلحة دمار شامل، فقد كنا يائسين فى ذلك الوقت لنبرر أنفسنا لو بمجرد خلق الديمقراطية فى هذا المكان. 

فى هذا الإطار قامت منظمات تعزيز الديمقراطية الأمريكية بضخ الموارد إلى العراق. فأطلق المعهد الجمهورى الدولى والمعهد الديمقراطى الوطنى، على وجه الخصوص، برامج كبيرة هناك، للمساعدة فى إنتاج مواد توعية الناخبين، وتدريب مسئولى الأحزاب، وتسهيل المناقشات السياسية وجهود التصويت.

ولكن الغرض من الانتخابات هو تحديد الناخبين لاتجاه دولتهم. وبهذا المعنى، كان لدى بوش مشكلة: أشارت تقارير المخابرات إلى أن مرشحه المفضل، إياد العلاوى، سيخسر فى أول انتخابات برلمانية فى العراق، والتى كان من المقرر إجراؤها فى يناير 2005.

يعتقد مجتمع المخابرات الأمريكية أن إيران كانت تتلاعب بالانتخابات لصالح التيار المعارض لتيار العلاوى. كان دوجلاس وايز الذى شارك أيضا فى جهود المخابرات الأمريكية بالانتخابات الصربية متمركزا فى العراق قبل الانتخابات، وبعد سنوات قليلة، أصبح رئيسا لمركز وكالة المخابرات الأمريكية هناك. ووصف التدخل الإيرانى فى الانتخابات العراقية بأنه واسع النطاق قائلا: نحن نتحدث عن المال والناشطين والتهديدات والابتزاز والوجود شبه العسكرى.

ناقش بوش ومستشاروه ما إذا كان عليهم الرد بعمل سرى. وشارك جون نيجروبونتى، سفير الولايات المتحدة فى العراق آنذاك فى المناقشات التى دارت ما بين المسئولين الأمريكيين فى واشنطن وبغداد حول التدخل الانتخابى بقيادة وكالة المخابرات المركزية.

وبحلول خريف عام 2004، كانت الوكالة تتحرك نحو العمل من أجل التدخل السرى فى نتائج الانتخابات العراقية. لكن بعض قادة الكونجرس والمسئولين الأمريكيين كانوا ضد هذه الخطة بسبب الخوف من مخاطر الكشف عن هذا التدخل. وقد تم تأجيل خطة وكالة المخابرات المركزية.

وفى يناير 2005، خسر تحالف العلاوى بشكل مدوى فى انتخابات شابتها حالة من عدم الاستقرار والهجمات الإرهابية. ثم تولى ائتلاف حاكم ذى علاقات وثيقة مع طهران السلطة.

3- عصر جديد

استنادا إلى مقابلات شيمر مع مديرى وكالة المخابرات المركزية السبعة من يوليو 2004 إلى يناير 2017، وكذلك المديرين السابقين للمخابرات الوطنية ونواب مديرى وكالة المخابرات المركزية، لم تعد الولايات المتحدة تفضل خيار التدخل فى الانتخابات. 

يؤكد شيمر أن هناك مجموعتين من مسئولى المخابرات. تصر المجموعة الأولى على أن المخابرات المركزية لم تعد تتدخل بشكل سرى فى الانتخابات. قال ديفيد بتريوس، الذى قاد وكالة المخابرات المركزية فى 2011 و 2012، إنه ليس على علم فى الآونة الأخيرة بمثل هذه العمليات. كما أنكر جون برينان، مدير وكالة المخابرات المركزية من 2013 إلى 2017، حدوث مثل هذه العمليات تحت إدارته. أما المجموعة الثانية، فهى تؤكد أن وكالة المخابرات المركزية ابتعدت عن التأثير على الانتخابات فى الخارج، لكنها لم تتوقف نهائيا عن مثل هذا التدخل السرى.

من بين هذه المجموعة الثانية، كان ليون بانيتا، مدير وكالة المخابرات المركزية من 2009 إلى 2011، الأكثر صراحة. وقال بانيتا إن المخابرات الأمريكية لم تقم بتعديل الأصوات بشكل مباشر أو نشر التضليل. ولكن فى حالات نادرة، أثرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على وسائل الإعلام الأجنبية قبل الانتخابات من أجل تغيير المواقف داخل البلاد. وتابع بانيتا: إن طريقة وكالة المخابرات المركزية، هى استغلال وسائل الإعلام داخل دولة ما أو فى منطقة ما من أجل توصيل رسالة معينة أو التأثير بشكل معين. 

فى النهاية من الصعب تخيل أن المخابرات المركزية الأمريكية لا تتدخل فى نتائج الانتخابات فى الوقت الذى تتهم فيه نظيرتها الروسية بالتلاعب بنتائج الانتخابات فى مختلف أنحاء العالم، إن إنكار المجموعة الأولى من مسئولى المخابرات الأمريكية لمثل هذه العمليات يعد وفقا لقواعد العمل الاستخباراتى أكبر دليل على وجود مثل هذه العمليات، كما أن اعتراف المجموعة الثانى بعمليات التأثير القائمة على التلاعب بوسائل الإعلام فقط، هو ايضا فى حقيقته إشارة إلى قائمة طويلة من استراتيجيات التلاعب بالانتخابات تضم الكثير من الأدوات إلى جانب استغلال وسائل الإعلام.