حسن إسميك يكتب: هل يمكن قيام "مشروع مارشال" عربي؟

مقالات الرأي

حسن إسميك
حسن إسميك


خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية منهكة اقتصادياً و اجتماعياً؛حيث التهمت الحرب كافة موارد الأوربيين فأفقرتهم، وأوقعت مجتمعاتهم في أزمات اجتماعية كبيرة وخطيرة، كما أدى انتصار الاتحاد السوفياتي -آنذاك- إلى مفاقمة و تعميق معاناة الأوربيين، حيث شكّلت الإيدلوجيا الاشتراكية تحدّياً جديداً هدد الأوربيين في عقر دارهم؛ مما دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى طرح مشروع عام 1947سمي باسم وزير خارجيتها "جورج مارشال" لإنقاذ أوروبا وانتشالها من أزمتها الاقتصادية، وفقًا لما نشره موقع "إيلاف".

ومنع سيطرة وانتشار الشيوعية في أوروبا الغربية؛وتمثل مشروع مارشال في أن تقدم الولايات المتحدة الأموال لحكومات أوروبا الغربية على شكل منح غير مستردة،حيث قدمت أمريكا مساعدات مالية بما يقارب 17 مليار دولار، وكانت النتيجة نجاح المشروع في أوروبا حيث نمت اقتصاداتها وتمتعت شعوبها بمستوى رفاه عالٍ وتمت حمايتها من خطر المد الشيوعي.

والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا هل يمكن قيام ونجاح مشروع مارشال عربي؟

يكاد حال منطقتنا العربية وشرقنا المتوسط كله يشبه الظروف التي مرّت بها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛من حيث انتشار ظاهرة الحروب سواء بين الدول أو بين أبناء الدولة الواحدة (الحروب الأهلية) وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الفقر المتفشي والبطالة المستفحلة بين شعوب المنطقة وتفشي ظاهرة الإرهاب الأصولي الإسلاموي،وبالتالي ينطبق علينا مقولة الشاعر طرفة بن العبد:"ما أشبه الليلة بالبارحة"!

لقد خسرت منطقتنا الكثير من الأموال التي صرفت على الحروب البينية والأهلية، مما أعاق مسيرة النهوض التي طمحت إليها شعوبنا بعد التخلص من حقبة الاستعمار؛ فقد استزف الصراع العربي الإسرائيلي موازنات بعض الدول العربية التي دخلت في مواجهة مع إسرائيل، كذلك أدى قيام عدة حروب بين بعض الدول العربية-على سبيل المثال لا الحصر-كحرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وحرب الخليج الثانية بعد غزو العراق لدولة الكويت إلى تكبيد العرب خسائر فادحة ما زالت بادية للعيان حتى الآن.كما ابتليت منطقتنا العربية بصراعات وحروب أهلية دموية دمرت دولاً عربية وشردت الملايين من أهلها، فعلى سبيل المثال، العراق الذي دخل في دوامة الحرب التي تشبه في بعض ملامحها سمات الحروب الأهلية؛حيث لعبت في ساحتها عدة أطراف وظّفت الإرهاب والإرهابيين لصالحها، مما استنزف موارد هذا البلد وضرب أمنه وشرد أبنائه، وكل ذلك في سبيل حرب عبثية كان الخاسر فيها الفقراء وبسطاء من الناس.

هذا غيض من فيض والقائمة تطول، لكن هذه أمثلة على تجلِّيات البؤس الذي حاق وما زال يحيق بمنطقتنا التي يطلق عليها اللاعبون الكبار"الشرق الاوسط". فهل يمكننا أن نسلك طريقاً ثالثاً ينتشلنا من حالة الفوضى التي أطلق عليها توماس هوبز "حرب الكلّ ضدّ الكلّ"؟

مشروع مارشال بين مادحيه وناقديه
قيل الكثير و كُتب الكثير حول ضرورة قيام مشروع "مارشال عربي "؛حيث انقسمت النُخب العربية حوله إلى قسمين بين من يرى ضرورة قيامه لتحقيق التنمية الشاملة و إعادة إعمار ما دمرته الحروب في المنطقة، وبين من رأى فيه مشروعاً مشبوهاً يريد استيعاب إسرائيل في المنطقة.

ويبدو لي أن أصحاب الرأي الأول هم أقرب الى الصواب؛ لأنه لا يخفى على المواطن العربي البسيط أن واقع حالنا لا يسر لا الصديق ولا العدو؛فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ليست بحاجة لتفصيل أو سرد فهي بادية للعيان، وبالتالي لماذا التشكيك في أي مشروع أو مبادرة تطرح لمعالجة هذا البؤس الذي حوّل واقع الكثير من بلداننا إلى أرضٍ يباب؟

وأكاد أجزم هنا أن لعنة "عقلية المؤامرة" توشك أن تعصف بعقول وفكر أهل شرقنا المتوسط ومنطقتنا برمتها؛فهل سأل هؤلاء المشككون أنفسهم كيف قبلت أوروبا واليابان وغيرها من الدول ببرنامج المساعدات الأميركي "مشروع مارشال"؟ الذي لم تقدمه أمريكا -انذاك لهم-صدقة تبتغي من ورائها الأجر والثواب؛ بل هي –وهذا من حقها- ضمنت عدم وقوع أوروبا لقمة سائغة للاتحاد السوفيتي المنافس الاستراتيجي لها، ونجحت في ترسيخ مكانة دولارها الذي أصبح عملة التبادل العالمية، كما نشَّطت اقتصادها صوب السوق الأوروبية المتعطشة لحركة السلع.هذا من جهة ومن جهة أخرى يبدو أن بعض نخبنا السياسية والمثقفة ستبقى مسكونة بالبعبع الإسرائيلي؛ فهم من جهة يصفونها بالكيان المصطنع الضعيف الطارئ، ومن جهة أخرى يبالغون في خطرها!

وعليه،إن ذهنية التفكير بأثر رجعي، والتي يحترفها العقل الجمعي للكثيرين منا لن تسهم في تحقيق أي مخرج من النفق المظلم الذي تمر به منطقتنا العربية وما جاورها؛بمعنى إن أستمرينا في رفض كل خيار منتج وواقعي على قاعدة "إما كل شيء أو لا شيء على الإطلاق" فسنبقى نملك لا شيء! ومن ثم وبعد نصف قرن أو أكثر نكتشف بأننا لو قبلنا به "على قاعدة خذ وطالب" لكان حالنا أفضل مما هو عليه الآن!

إمكانية نجاح مشروع مارشال عربي
إن قيام مشروع اقتصادي اجتماعي ضخم يحق الأزدهار والتنمية في المنطقة هو ضرورة مُلحّة وعاجلة لا تحتمل التأخير أو التسويف؛ بحيث تكون جميع الدول العربية مشاركة فيه سواء الغنية بالثروات المالية او الغنية بالثروة البشرية الكفؤة والاسواق الكبيرة، وبالتالي سيتوقف نجاحه على مدى إدراك أهميته الاستراتيجية،ما يعني تصفير المشاكل والأزمات البينية العربية لتحقيق هذا المشروع الطموح، الذي سيؤدي نجاحه إلى خلق سوق عمل هائلة ينتج عنها توفير فرص عمل لملايين الشباب في منطقتنا، وهذا من شأنه أن يحقق الأمن الاقتصادي والاجتماعي لهم.

إن عجلة التاريخ وصيرورة التطور لا ولن تتوقف، وإذا لم نفكر بعقلية الشعوب التي تجاوزت أزماتها في سنين معدودة بعد الكوارث التي لحقت بها،فإننا سنبقى نجترّ الشّعارات والمواقف نفسها ونكرّر أخطاءنا ذاتها!
الدور الأميركي والأوربي يقع على عاتق على الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي مسؤولية نجاح هذا المشروع؛ نظراً لتجربتهم التاريخية الناجحة وريادتهم في مثل هكذا مشاريع هذا من جهة ومن جهة أخرى إن لم يدرك هذان الطرفان-أي أمريكا و أوروبا- أهمية دعم مشروع اقتصادي عربي ضخم يخرج المنطقة من أزماتها المزمنة فإنهم يضعون رؤوسهم في الرمل؛حيث أنهم يعلمون جيداً بأن استمرار منطقتنا في دوامة العنف والفقر والإرهاب سيشكل خطراً إستراتيجياً على أوروبا التي جربت هجرة شعوب الشرق الأوسط إليها وما أحدثه من أزمات داخل مجتمعاتها الغربية. كما يجب على صانع القرار الأميركي أن يأخذ بعين الحسبان أهمية وجود استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي في منطقتنا من شأنه أن يخفف من الأكلاف الاقتصادية والأمنية التي تقدمها الولايات المتحدة الأميركية لحليفتها إسرائيل؛فتحقيق سلام دائم ينهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سينزع أحد أهم فتائل التوتر الدائم في الشرق الأوسط؛وعليه إذا ترافق حل القضية الفلسطينية مع مشروع اقتصادي كبير تندمج فيه كل دول المنطقة بما فيها إسرائيل، فإنه سيؤدي إلى تحقيق ازدهار ورفاه ينتشل شعوبنا من مستنقع الفقر والعنف والكراهية، أيضاً ستكسب-أمريكا-حليفاً مهماً يشرف على ممرات مائية عالمية تتمتع بأهمية جيوستراتجية كبيرة،كالبحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي،وبالتالي ستقطع الطريق على أي منافس لها يحاول أن يضع له موطئ قدم في هذه المنطقة الحيوية.