عبده الزرّاع يكتب الأخوين جريم.. وحكايات البيت والأطفال!

الفجر الفني

عبده الزرّاع
عبده الزرّاع


لا يذكر اسم "الأخوين جريم" حتى يقفز إلى ذاكرتنا مباشرة (حكايات البيت والأطفال) والتى كانت سببا مباشرا فى شهرتهما، وهذه الحكايات عبارة عن حكايات الجدات الألمانيات اللاتى كن يحكونها للأطفال الصغار ليلا فى البيت.

 

وهذه الحكايات لأهميتها وقيمتها الفنية ترجمت إلى العديد من اللغات الأخرى، وقد قرأتها فى أكثر من طبعة مصرية وعربية.

 

ظلت مصدرا للامتاع وتسلية الأطفال لأجيال عديدة، ولازالت حتى الآن مصدرا لامتاع الصغار والكبار الذين يعاودون قراءتها بين الفينة والفينة.

 

وللأخوين جريم اسهامات كثيرة خالدة فى تشكيل الحياة الثقافية لهذا القرن التاسع عشر الغنى الخصيب بالتيارات المتلاطمة، إذ قاموا باكتشاف –أو إعادة اكتشاف- الماضى الألمانى فى مجالات اللغة والأدب، وبهذه الطريقة أسهما بشكل فعال –وإن يكن بشكل غير مباشر- فى تأسيس علم الفولكلور، فأثروا بذلك تراث وطنهم وتراث شعوب أخرى عديدة.

 

المولد والنشأة:

 

ولد "جاكوب" أكبر الأخوين- فى يناير 1785 فى مدينة هانا وباقليم هسن، حيث كان الأب يعمل موظفا فى السلك القضائى، وبعد مرور عام ولد "فيلهلم" فى شهر يناير 1786، وتوطدت أواصر الصداقة بين الأخوين منذ فترة مبكرة من حياتهما حيث كانا يعيشان فى حجرة واحدة فى بيت الأسرة، وناما كصبيين فى سرير واحد، وكان يلبسان زيا متشابها، وقد أثرت هذه النشأة فى وجود تلك العلاقة الحميمة التى جمعت بينهما بقية عمرهما فى الحياة وفى الانتاج العلمى فيما بعد.

 

وبعد أن انتقلت الأسرة عام 1791 من مدينة "هاناو" إلى "اشتيناو" بسبب نقل الأب من وظيفته، وذلك قبل وفاته بخمسة سنوات، وفى تلك الفترة المبكرة ارتبطت علاقاتهما بالطبيعة الجميلة وبالناس البسطاء، كما ارتبطا أيضا بالأرض التى تجود على هؤلاء بالخير الوفير، وقد دب فيهما منذ طفولتهما الباكرة الحماس للجميع، ولكنه لم يكن موجها فى البداية إلى التراث الشعبى وإنما إلى الفراشات الملونة الجميلة والنباتات الغريبة، وبدت عليهما القدرة على ملاحظة الأشياء الدقيقة والمألوفة، وهى خاصية من خصائص دارس التراث الشعبى.

 

وعندما التحقا الأخوين بالدراسة الثانوية أبدى تفوقا فيها وإن كان "جاكوب" قد بذ أخاه "فيلهلم" الذى لم تتح له بنيته الضعيفة أن يبلغ ما بلغه أخاه من تفوق فى التحصيل.

 

فى أبريل 1802 التحق "جاكوب جريم" بجامعة ماربورج لدراسة القانون، ثم لحق به أخوه"فيلهلم" فى العام الثانى مباشرة، وتعلم الأخوين فى الجامعة القانون، كما درسا تاريخ القانون للعصور الوسطى، ونما اهتمامهما بالأدب من جراء الكتب التى اطلعا عليها فى مكتبة استاذهما هرد الذى علت وترددت صيحاته فى الاهتمام بالتراث الشعبى.

 

إلى أن جاءت الرومانسية ابتداء من عام 1800، وكانت مصدر دفعات قوية للاهتمامبالعصور الوسطى وبالأدب الشعبى، كما عملت على تدعيم الوعى القومى فى ألمانيا.

 

فى تلك المرحلة جاءت مجموعة "بوق الصبى السحرى" التى أعدها برنتانو وأرنيم رمزا لبعث الأغنية الشعبية الألمانية.

 

على أن جامعى "البوق السحرى" لم يلتزما فى جمعهما لأغانى المجموعة بأى قيود علمية، بل كان خطوة عظيمة على طريق الكشف عن تراث الشعب المطمور.

 

وفى عام 1805 بدأ حب الأخوين جريم لكل ما هو ألمانى قديم يزداد نموا واتضاحا، وقد تدعم هذا الحب وازداد من خلال اقامة "جاكوب" الأولىفى باريس، وكان استاذه سافينى قد استدعاه فى أوائل عام 1805 إلى باريس لكى يعاونه فى المراحل الأولى من اعداد مؤلفه عن تاريخ القانون الرومانى، وأخذ "جاكوب" ينهل يوميا من مخطوطات العصور الوسطى فى مكتباتها.

 

ثم عاد "جاكوب جريم" من باريس فى سبتمبر عام 1805، حيث اجتاز امتحان شهادة الحقوق بعدها بقليل، واستطاع الحصول على عمل وما إن لبثت التطورات إلى أن أدت لترك "جاكوب" العمل فى عام 1807، ثم توفت أمهما عام 1808، فعاد إلى عمل جديد وفى عنقه رعاية أخواته الخمسة بعدما أصبح الآن رب الأسرة.

 

التنقيب عن كل ماهو قديم:

 

وقد وجد "جاكوب" فى عمله الجديد أمينا لمكتبة عامة فرصة ذهبية لقضاء النهار بطوله فى التنقيب عن الشعر والأدب الألمانى القديم، ولم يكن أخاه "فيلهلم" أقل منه حماسا فى هذا اللون من الدراسة.

 

وشاءت الظروف إلى أن يلتقى الأخوين بجوتة الشاعر العظيم، وتتوثق العلاقة بينهم، ومن الأفكار العبقرية التى راودت الأخوين فى هذا الصدد، ولم يكتب لها أن تخرج للنور وحيز الواقع كما أراد، ذلك المشروع الذى قدماه إلى جوتة عام 1816 لانشاء الجمعية الألمانية لتكون مسؤلة عن عملية جمع التراث الشعبى الألمانى بشكل منظم وممنهج وبمعناه الواسع.

 

وهذا يدل بوضوحعلى المستوى الفكرى الرفيع الذى بلغه الأخوين جريم كدارسين ثقات فى علم الفولكلور فى الوقت الذى لم يكن هذا الفرع من فروع العلم قد ظهر إلى الوجود أو حمل هذا الاسم بعد.

 

وظل "جاكوب" يتابع مهنته الجديدة، وقد قاده هذا العمل إلى رحلات عديدة وطويلة خارج ألمانيا، بينما ظل أخوه "فيلهلم" يرعى الأسرة واستغل فترة تواجده فى البيت لمواصلة العمل فى مشروعاتها المشتركة، فأعد الجزء الثانى من كتاب (حكايات الأطفال والبيت) واستطاع فى عام 1814 أن يحصل على وظيفة أمين مكتبة ثان فى مكتبة كاسل.

 

وفى عام 1815 صدر للأخوين ثلاث كتب، هى: الجزء الثانى من كتاب "حكايات البيت والأطفال" وكتاب "الأدا" وكتاب "هينريش المسكين" لتسليح الفدائيين المناضلين ضد الاحتلال الفرنسى.

 

وكان الأخوين جريم قد أسسا فى عام 1813 مجلة "الغابات الألمانية القديمة" والتى استهدفا من ورائها: "احياء دراسة الحضارة الألمانية القديمة" وبعث روحها على أنهما لم يستطيعا الاستمرار فى إصدار المجلة طويلا فتوقفت عام 1816.

 

ترك "جاكوب" العمل الدبلوماسى فى ديسمبر عام 1815 ليتفرغ كلية لشغل حياته الشاغل وعاد إلى كاسل حيث حصل على وظيفة أمين مكتبة التى كان "فيلهلم" يعمل بها منذ عام 1814.

 

وقد وصف "جاكوب" فى "ترجمته الذاتية" السنوات الثلاث عشرة التى تلت ذلك فى عملهما هذا فى مكتبة كاسل بأنها "أهدأ فترات حياته وأكثرها عملا" وكان أبرز ثمار هذه المرحلة على الاطلاق مؤلف "جاكوب" الخطير الأثر "الأجرومية".

 

وبعدها أن ذيع سيط الأخوين جريم فى تلك الفترة بين دوائر المتخصصين، وكرمتهما الأكاديميات والجمعيات العلمية، ومنحتهما جامعة ماربورج درجة الدكتوراه الفخرية، علاوة على الشهرة الجماهيرية التى تمتعا بها حيث كان يعرفان باسم "الأخوين مؤلفى الحكايات".

 

ورغم هذه الشهرة الواسعة إلا أنهما كان يلاقيان بعض المتاعب والمضايقات والاهانات داخل المكتبة دون غيرهم من الزملاء، ووصلت هذه الاهانات إلى تجاوزهم فى العلاوة ثم فى الترقية بشكل مسئ، ووجدا أنه بات من المستحيل البقاء فى كاسل، رغم ارتباطهما الوثيق بها، فى تلك الأثناء عرضت عليهما وظيفة بهيئة التدريس بجامعة جوتينجن ليشغل "جاكوب" وظيفة استاذ كرسى الفلسفة وأمين مكتبة الجامعة، بينما "فيلهلم" يشغل أمينا لمكتبة الجامعة أيضا، وقد قبلا هذه الوظيفة عام 1829، وهو نفس العام الذى وجهت لهما الاهانة فيه.

 

وفى عام 1831 تحسن وضع "فيلهلم" أيضا إذ عين فى فبراير من نفس العام أستاذا بدون كرسى مع بقائه فى فى وظيفة أمين للمكتبة، ثم عين أستاذ كرسى فى يونيو عام 1935، أما فى عام 1832 كرمت أكاديمية الفنون ببرلين الأخوين بتعيين "جاكوب" عضوا عاملا فيها، و"فيلهلم" عضوا مراسلا.

 

ولم تعطل مهام المنصب الجديد "جاكوب" عن متابعة نشاطه فى التأليف كما كان يتخوف فى البداية بل توالت مؤلفاتهم وكان على رأسها: الجزء الثالث من "الأجرومية الألمانية" ثم الجزء الرابع بعده بست سنوات، و"ثعلب رانيهات" و"الميثولوجيا الألمانية" وغير ذلك من المؤلفات.

 

معارك الدستور:

 

لم يكتب للأخوين جريم أن تطول اقامتهما فى جوتنجن بنفس طولها فى كاسل، فقد دخلا فى معارك الدستور التى كانت مشتعلة فى ذلك الوقت على أشدها.

 

ولم يجد الملك أمامه إلا أن يفصل الأساتذة السبعة من مناصبهم ومنهم "جاكوب" و"فيلهلم" ومغادرة ثلاثة الولاية وكان منهم "جاكوب" خلال ثلاثة أيام.

 

وودعت المظاهرات الضخمة "جاكوب جريم" حتى حدود الولاية بحماس متأجج يدل أعظم الدلالة على مدى تأثير هؤلاء الأساتذة العظام فى طلابهم وفى الأجيال الجديدة عموما.

 

وقد عاد "جاكوب" إلى العمل فى مدينة كاسل، بينما بقى "فيلهلم" مع أسرته مؤقتا فى جوتينجن، والذى عاد بعد ذلك مصطحبا أسرته فى سبتمبر عام 1838 والتأم الشمل من جديد.

 

أنفق "جاكوب" جريم أربعة أشهر من وقته الثمين يناقش ويحاور فى برلمان فرانكفورت وهو يزداد كل يوم يأسا وشعورا باحباط، وبأن المؤتمر يبتعد يوما بعد آخر عن تحقيق هدفه المنشود، حزم "جاكوب" أمره على التنازل عن عضويته فى البرلمان، والانسحاب منه عائدا إلى برلين إلى حجرة مكتبه وإلى كتبه وأوراقه، وكانت هذه الحادثة نهاية "جاكوب" على المسرح السياسى.

 

نستطيع أن نقول أن العمل الذى ربط بين الأخوين جريمفى البداية رغم الاختلاف فى شخصياتهما، واختلاف كل منهما عن الآخر هو تلك المجموعة التى نعرض لها من حكايات، وجمع بينهما من جديد فى المرحلة الأخيرة من حياتهما ولم يفرق بينهما سوى الموت،  ففى السادس من ديسمبر عام 1859 توفى "فيلهلم" إثر إصابته بورم دموى فى العمود الفقرى وعمره أربعة وسبعين عاما.

 

وقضى "جاكوب" أربعة سنوات بعد وفاة أخيه فى عمل متصل لا يعرف الكلل وهو فى تلك السن المتقدمة، بحيث أن زوجة أخيه وأولادها كانوا يضطرون إلى حمله حينما يريد مغادرة مكتبه، وقد استطاع أن يصدر مجلدا رابعا من كتابه "حكيم القدماء" فى عام 1863، وعاد بمقالة "حول حكايات الحيوان" إلى طريق موضوعة المحبب، ووضع خطة تفصيلية وعمل بمقتضاها لتأليف كتابه عن "العادات الألمانية" ولو أنه كان قد أنجزه، لعجل بقيام علم الفولكلور عشرات السنين، ومهد الطريق لمن تبعوه على درب الدراسه الفولكلورية خدمات لا تقدر، ولكن لم يمهله العمر ليرحل عن دنيانا فى 20 سبتمبر عام 1863.