د. عذاب العزيز الهاشمي يكتب: ملاحظات في سطور الأزمة العنصرية الأمريكية

ركن القراء

بوابة الفجر


في انتقاد غير مسبوق، قال مدير عملاق الصناعة الألمانية، "سيمنس جو كيزر"، إنَّ منصب الرئيس الأمريكي في ظل حكم ترامب تحول لوجه يُجسد (العنصرية والإقصاء)، حيث كتب "كيزر" على تويتر أن هذا الأمر أحزنه، مشيرًا إلى أنه عاش سنوات عديدة في الولايات المتحدة عايش خلالها "الحرية والتسامح والانفتاح كما لم يعايشها في أي وقت من قبل".

حُقُوقٌ مَسْلُوبَةٌ
صعْبٌ القول أنَّ الأمريكي الأسود قد نال كل الحقوق والفرص المتاحة لنظيره الأبيض، نعم تحسنت ظروف معيشة السود بشكل عام، لكن الفوارق لا تزال قائمة وصارخة، وطبقًا لإحصاء عام 2019م، بلغ عدد السود 42 مليون نسمة، أو نسبة 13% من إجمالي عدد السكان، وتبقى المشكلات الكبيرة للسود الأمريكيين؛ ممثلة في عدة ظواهر مُقلقة؛ من أبرزها الفقر؛ إذ يعيش 24.7% من السود تحت خط الفقر، وتبلغ هذه النسبة 12.7% على المستوى القومي الأمريكي.

ويقصد بالفقر أمريكيًّا؛ حصول عائلة مكونة من أربعة أفراد على أقل من 18.4 ألف دولار سنويًّا، كما يتعرض التلاميذ السود في حالات الإخلال بالنظام لعقوبات أكثر صرامة من نظرائهم البيض، ويجد الكثير من التلاميذ السود أنفسهم فى مدارس ضعيفة التجهيز.

وتعكس بيانات قطاع الصحة أن معدل عمر الأمريكي الأسود أقل من نظيره الأبيض بـ 6 سنوات، إلا أن الظلم المجتمعي يُعبِّر عن نفسه بصورة أكثر وضوحًا من خلال نظام العدالة ونظام المحاكم، حيث يتعرض السود أكثر من غيرهم لرقابة الشرطة في الأماكن العامة، كما أن احتمال الحكم عليهم بالإعدام يبلغ أربعة أضعاف احتمال الحكم على البيض فى الجرائم المشابهة.

ونسبة السود بالسجون الأمريكية تبلغ 43% رغم أن نسبتهم للسكان بلغ فقط 13%، ويُسجن من الرجال السود مرة واحدة على الأقل فى حياتهم، ولا تزال نسب الزواج المختلط نادرة بين السود والبيض، وتبلغ فقط 0.06%.
أما في الشق السياسي، فبالإضافة للرئيس، هناك عضوين سود بمجلس الشيوخ المكون من مائة عضو، وهناك 44 نائبًا في مجلس النواب المكون من 435 عضوًا أو ما نسبته 10%.
اِزْدِوَاجِيَّةُ الْمَعَايِيرَ
عندما خرج الرئيس "إبراهام لينكولن" منتصرًا من الحرب الأهلية الأمريكية (1861م - 1865م)، وضع حدًا لديكتاتورية دامت مائة عام، لا زالت حتى يومنا هذا تسمى "ديمقراطية".

في القرن الثامن عشر، كان العبيد السود يشكلون أكثر من نصف عدد السكان في ولايات عدة؛ مثل ساوث كارولينا، لكنهم لم يكونوا يعتبرون مواطنين أمريكيين ولا كائنات بشرية يمكن لهم أن يتمتعوا بحد أدنى من الحقوق.

وقبل فترة طويلة من عهد "لينكولن"، اقترح عدد من العنصريين ومن المناهضين للعنصرية، حل «مشكلة السود» بإعادتهم إلى هاييتي أو إفريقيا، حيث انتهى الأمر بالعديد منهم إلى تأسيس دولة ليبيريا (إحدى الطالبات، أدجا، من عائلة أصيلة هذا البلد الإفريقي).

واتّبع الإنجليز نفس الطريقة "لتخليص" إنجلترا من السود، إلا أنه في ظل حكم "لينكولن"، أصبح السود مواطنين، ومن بين الأساليب الرامية لتقليص عددهم ليصبحوا أقلية، تم منعهم من التصويت (من خلال فرض ضريبة على الاقتراع، مثلًا)، وأيضًا من خلال فتح حدود البلاد للمهاجرين الوافدين.

لا يزال تمثال الحرية الذي أهداه الشعب الفرنسي إلى الشعب الأمريكي بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان الاستقلال الأمريكي لسنة 1776م، يردد بشفاهٍ موصمة: "آتني بالبؤساء والمتعبين وكل الحشود التواقة إلى التنفس بحرية، التي لا يحصى عددها...".

وفعلا، استقبلت الولايات المتحدة أمواجًا من المهاجرين الفقراء، بالطبع، كانت أغلبيتهم الساحقة من الفقراء ذوي البشرة البيضاء، وقد عارض الكثيرون قدوم الإيطاليين والأيرلنديين؛ لكونهم كاثوليكيين ومن ذوي الشَّعر الأشقر، ومع ذلك كان يُنظر إليهم على أنهم أفضل من السود، ولم تكن في مقدرة السود الهجرة من إفريقيا، ليس فقط لأن المسافة بينهم وبين السواحل الأمريكية أطول بكثير مقارنة بالأوروبيين، ولكن أيضًا لأنهم كانوا أكثر فقرًا، وكذلك لعدم توفر وسائل نقل بحرية بين سواحل إفريقيا ونيويورك، إلا نادرًا.

من وجهة نظري، هكذا تمت بكل ألمعية ونجاعة، إعادة تشكيل التركيبة السكانية؛ أي التركيبة السياسية والاجتماعية والعرقية للولايات المتحدة، وإن الانفعال الذي نشهده حاليًّا جراء التغيير في حجم عناصر هذه التشكيلة؛ ليس إلا استمرارًا لنفس المنطق القديم، وإلّا، ما العيب في الانتماء إلى أقلية وفي الاختلاف عن الآخرين؟

صحيحٌ أنه لا حاجة إلى أن تكون عنصريًّا للدفاع عن القوانين والمطالبة بحدود أكثر أمنًا، ولا حاجة إلى أن تكون عنصريًّا لتنخرط وتدعم النموذج العنصري والطبقي القديم؛ بينما تتشدّق بمفاهيم الرحمة والنضال؛ من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.

وَاقِعُ الْحَالِ فِي أَمْرِيكَا
على وقع أحداث العنف بين المحتجين من المواطنين السود، ورجال الشرطة الأمريكية، والتي تحولت إلى مشاهد تزداد اتساعًا، وتنتقل من ولاية إلى أخرى؛ احتجاجًا على مقتل "جورج فلويد" الأمريكي الأسود، البالغ من العمر 46 عامًا، على يد شرطي أبيض في ولاية (مينيسوتا)، انشغل الكثير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية، بما كشفته الحادثة من صورة حقيقية، لأمريكا من الداخل، وما يبدو أنه تمييز مايزال متواصلًا، ضد سكانها من ذوي البشرة غير البيضاء، رغم ما يروج له عن مجتمع أمريكي ينعم بالمساواة والعدل.