عادل حمودة يكتب: لا تطلقوا النار على عادل إمام

مقالات الرأي



حبة قمح أصبحت حقلا من السنابل الذهبية

فى الوسط الفنى يشيرون إلى نجاح فنان بجملة «مصروف له» ويقصد بها أن ما يحققه منحة من السماء لا يحق لأحد الاعتراض عليها

أحزننى أن نتعامل مع نجم مثله بذلك الجحود لمجرد أن عملًا فنيًا لم يعجبنا.. أحزننى أن ننسى مشواره الصعب وتاريخه البعيد ومواقفه الشجاعة

فى الساعة السادسة والنصف مساء يوم 8 يونيو 1992 خرج الدكتور فرج فودة من مقر الجمعية المصرية للتنوير ليركب سيارته بصحبة ابنه وأحد أصدقائه ولكن ما كاد يقترب منها حتى أمطره شابان ملتحيان من تنظيم الجماعة الإسلامية (هما أشرف إبراهيم وعبد الشافى رمضان) بوابل من الرصاص وانطلقا هاربين على دراجة بخارية.

سارعت إلى المستشفى الذى نقل إليه فرج فودة فى حى مدينة نصر لعلاجه من إصابات بالغة فى الكبد والأمعاء وهناك وجدت عادل إمام ينتظر بالقرب من غرفة العمليات مستعدا للتبرع بدمه إذا احتاجه فرج فودة لمواجهة النزيف الذى لم يتوقف.

نسينا فى تلك اللحظات الصعبة المؤلمة خلافا بيننا لا أتذكر سببه.. رممت المأساة الجسور الممتدة بيننا.

فى ذلك الوقت كان عادل إمام مطلوبا من التنظيمات الإرهابية بعد مواقفه الوطنية وأعماله الفنية التى فضحتها وعرتها بدأت بمساندة فرقة مسرحية شابة حطم التكفيريون مسرحها وحطموا ديكوراتها سافر إليها فى الصعيد.

جاء عادل إمام إلى المستشفى ليطمئن على مفكر شجاع كشف فى مناظرة مفتوحة بمعرض الكتاب زيف الأفكار التكفيرية فلم يجد سوى الرصاص يرد به على الحوار.

وعندما قدم فيلم «الإرهابى» أصر على وجود شخصية فرج فودة فى السيناريو وإن تغير الاسم.

ولم تمر سوى أسابيع قليلة حتى دعانى عادل إمام ليحكى لى عن مسرحيته الجديدة الزعيم وجلسنا بعد منتصف الليل على رصيف مسرح الحرية المطل على شارع الشيخ ريحان دون أن يشعر بنا أحد من المارة وإلا تجمعوا حولنا وأفسدوا السهرة.

اقتبست المسرحية من تصرفات الحكام الطغاة مثل صدام حسين ومعمر القذافى التى تثير الضحك بقدر ما تثير البكاء فى حالة من الكوميديا السوداء برع عادل إمام فى تقديمها حتى أصبح اسم المسرحية لقبا أطلق عليه.

وما أن بدأ الفجر يفرض نوره على عتمة الليل فاتحا الطريق أمام أشعة الشمس حتى انصرف كل منا عائدا إلى بيته دون أن نتخيل أن المكان الذى كنا نجلس فيه سيصبح مسرحا واقعيا يشهد محاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء حسن الألفى.

كنت وقتها مسئولا عن تحرير «روزاليوسف» ونجح الطاقم الصحفى الشاب الذى شاركنى التجربة فى زيادة توزيعها وتأثيرها حتى جذبت كبار الكتاب وأشهر النجوم إليها.

ولأنه قادر على الفرز لم يكف عادل إمام عن منح «روزاليوسف» كل ما لديه من انفرادات ومن جانبها ساندت المجلة مواقفه السينمائية الجريئة التى جسدها فى أفلام سياسية كتبها ببراعة السيناريست وحيد حامد ووضعت المخرج شريف عرفة فى الصف الأول: الإرهاب والكباب والمنسى واللعب مع الكبار وطيور الظلام مثلا.

وحاول عادل إمام ترجمة أعماله الجادة إلى مواقف حية فلم يتردد فى السفر إلى رام الله لمساندة الدويلة الفلسطينية التى أقرت بها اتفاقيات أسلو وقضى أياما بصحبة ياسر عرفات.

ولكن القيامة قامت ضده عندما فهم من كلامه فى ندوة مفتوحة بمعرض الكتاب أنه لا مانع عنده من الذهاب إلى إسرائيل وأمام الهجوم الذى تعرض إليه بأكثر مما نطق به لم يجد سواى بنصيحة من زوجته السيدة هالة الشلقانى- سواى- لنشر توضيح فى «روزاليوسف» على لسانه قائلا:

على الطلاق ما حاسافر إسرائيل.

ولكن سبقت تلك المرحلة التى توصف بالنضج السياسى مرحلة امتدت سنوات طوال بحث فيها عادل إمام عن الوجود الفنى ولو بأدوار ثانية لا يملك تغيير نصها أو حجمها حتى جنى كل ما زرع بوفرة من الشهرة والنجومية والثروة لم يصدق أحد أنها ستصل فى يوم من الأيام إلى دسوقى أفندى.

وفى الوسط الفنى يشيرون إلى نجاح فنان بجملة: مصروف له ويقصد بها أن ما يحققه من تواجد مسرحى أو سينمائى أو تليفزيونى منحة من السماء لا يحق لأحد الاعتراض عليها ولو كان له رأى آخر.

ملك الملوك إذا وهب لا تسألنا عن السبب.

لكن تلك المنحة موهبة خام على الفنان تنميتها بذكاء ليصبح نجما متألقا مثل أحمد زكى ونور الشريف ومحمود عبد العزيز وعادل إمام أو يستنزفها ويبددها بإهمال مثلما فعل سعيد صالح وحاتم ذو الفقار.

وتنمية الموهبة تتجاوز حدود البلاتوهات والاستديوهات والسيناريوهات إلى وعى الفنان بما حوله من مشكلات وتصورات وشخصيات.

كان نور الشريف يقرأ كتابا أسبوعيا فى الفلسفة والعقائد والنظم السياسية ويسعى بنفسه للحوار مع مفكرين لهم مواقفهم مثل زكى نجيب محمود وسيد القمنى.

وكان أحمد زكى يفطر كل صباح على وجبة ثقافة يقدمها إليه صلاح جاهين عبر الهاتف ويمتحنه فى كتب معينة ويشد أذنه أحيانا إذا ما أهمل.

ولا شك أن عادل إمام كان حريصا على سماع الشخصيات المؤثرة فى الحياة العامة مثل أسامة الباز ومصطفى الفقى ومحمد حسنين هيكل.

كان هيكل ضيفا دائما على دعوة إفطار كل رمضان من الدكتور ميلاد حنا فى بيته بحى المهندسين لم يكن هيكل يتناول فيها شيئا يخل بنظام طعامه وأحيانا كانت تصحبه قرينته السيدة هدايت تيمور.

كنت ضيفا دائما بجانب عادل إمام وصلاح منتصر وفاروق الفيشاوى ولينين الرملى وسلامة أحمد سلامة وكنا جميعا ننصت بشغف إلى هيكل الذى كان فى عيوننا نجم النجوم.

وذات إفطار تحدث هيكل عن سر انصرافه عن الكتابة قائلا:

إنه فكر فى اعتزال الكتابة يوم تنحى عبد الناصر بعد الهزيمة أو على الأقل ترك رئاسة تحرير الأهرام وعندما بلغ الستين وعندما هبطت طائرة السادات فى إسرائيل ولكنه لم يتخذ قراره بالابتعاد عن الصحافة إلا بظهور وسائل أخرى أكثر تأثيرا منها مثل الفضائيات السياسية.

وروى هيكل أنه التقى بالخومينى فى منفاه على أطراف باريس ونشر حوارا معه وعندما علم السادات بذلك أبدى تعجبه لصديقه وصهره سيد مرعى قائلا: هو بيكتب إزاى مش أحنا رفدناه من الأهرام.

وعلق هيكل أنه رد على السادات قائلا: الصحفى بقلمه ومصادره وليس بمناصبه.

هنا سأل عادل إمام: متى يجب على الكاتب أو الفنان الاعتزال؟.

أجاب هيكل: إذا ما أحس بانصراف الجمهور عنه.

وأضاف: نحن لسنا موظفين حكومة حتى نحال إلى المعاش ربما يملك الواحد منا القدرة على الإبداع حتى التسعين وربما فرض علينا الانسحاب ونحن فى الثلاثين.

إن من حسن حظ عبد الحليم حافظ أنه فارق الحياة وهو فى قمة مجده فلم ينسه جمهوره وأصبح أسطورة بينما مد الله فى عمر مريم فخر الدين حتى خرجت علينا بأحاديث تليفزيونية أخذت من تاريخها الكثير.

تذكرت ذلك كله وأنا أتألم من الدعوات الصاخبة التى تناثرت بكثرة على السوشيال ميديا تطالب عادل إمام بالاعتزال.

أحزننى أن نتعامل مع نجم مثله بذلك الجحود لمجرد أن عملا فنيا لم يعجبنا.

أحزننى أن ننسى مشواره الصعب وتاريخه البعيد وأعماله الجريئة ومواقفه الشجاعة بدعوى أنه فى الثمانين من عمره.

ضعف حاد فى الذاكرة يصل إلى ما يمكن وصفه بـ الزهايمر العام.

طوال أربعين سنة عرفت فيها عادل إمام تذبذت علاقتنا بين الصداقة القوية والجفوة العابرة ولكن ذلك لم ينسينى أبدا الاعتراف بموهبته التى كانت حبة صرفتها له السماء ولكنه بذكاء ودأب وصبر زرعها وراعاها حتى أصبحت حقلا من السنابل الذهبية.