د. رشا سمير تكتب: «رضوى عاشور» مناضلة فى ثوب مُبدعة

مقالات الرأي



لا شك أن هناك جيلاً من المبدعين توارى فى صمت أمام جيل باهت خرج من رحم السوشيال ميديا، لكنه جيل ستبقى أعماله رغم أنف الأكثر مبيعا مثل الشمس الوضاحة التى تسطُع لتبعث الأمل والحياة فى الوسط الثقافى..

الحياة الأدبية التى احتلها جيل من عمالقة الأدب، محفوظ وعبد القدوس وإدريس والحكيم والسباعى، كانوا بلا جدال علامة فارقة فى تاريخ الإبداعين العربى والمصرى، تلت تلك المرحلة، مرحلة ظهور جيل آخر من الكُتاب فيمن عرفوا بجيل ما بعد الحرب..أو جيل الستينيات..من بين هذا الجيل ظهرت رضوى عاشور، التى نحتفل بذكرى ميلادها هذه الأيام فهى من مواليد 26 مايو 1946 وتوفيت يوم 30 نوفمبر 2014.

الكثير مما كتبته يقع بشكل أو بآخر فى منطقة السيرة الذاتية أو الكتابة الحياتية، إلا أنها لم تكتب السيرة الذاتية المعتادة للأقلام النسائية بل هى تكتب بشكل أعمق، تكتب من واقع يمس جيلاً بأكمله وبرؤى ممزوجة بتجارب الحروب والعصيان والتمرد..هى مناضلة ترتدى ثوب الإبداع..وترتحل خلف القلم من مكان إلى مكان..لأنها صاحبة مشروع كتابى متفرد اندرجت تحته مجموعة من العناوين الرائعة..

صدرت أول أعمالها الأدبية عام 1983 بكتاب عنوانه (أيام طالبة مصرية فى أمريكا) ثم تلاها «حجر دافئ» (رواية 1985)، و«رأيت النخل» (مجموعة قصصية 1987)، و«خديجة وسوسن» (رواية 1989)، و«سراج» (رواية 1992)، و«ثلاثية غرناطة» ( رواية 1994)، و«مريمة والرحيل» (1995)، و«أطياف» (رواية 1999)، و«تقارير السيدة راء» (نصوص قصصية 2001)، و«قطعة من أوروبا» (رواية 2003). و«الطنطورية» (رواية 2011)..

كما حازت على جائزة أفضل كتاب لسنة 1994 على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب، وجائزة سلطان العويس للرواية والقصة..والجائزة الأكبر وهى إعجاب القراء..

اليوم فى ذكرى يوم ميلادها اصطحبكم فى رحلة عبر صفحات بعض أعمالها وأدعوكم لاقتنائها وقراءتها.

1ثلاثية غرناطة

لكل روائى عمل متميز فى تاريخه الأدبى، عمل صنع نجاحه وشهرته، فحتى لو كتب ألف رواية بعده ظلت للأبد تلك الرواية هى الارتباط الوثيق بينه وبين الجمهور، وعنوان داره كلما هم أن يطرقها القراء..

هكذا أرى ثلاثية غرناطة، الرواية الصادرة عن دار الشروق للنشر فى 535 صفحة..

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول «غرناطة» والجزء الثانى «مريمة» والثالث «رحيل».

تبدأ الأحداث قبيل سقوط غرناطة فى يد القشتاليين فى عام 1491م بعد أن سقطت جميع الممالك المسلمة فى الأندلس وعندما تم تسليم غرناطة وهى آخر مملكة إسلامية تسقط فى الأندلس و تنتهى الأحداث عند ترحيل المسلمين من الأندلس، أى أنها تدور فى مُدة زمنية تزيد عن مائة عام..

تأخذنا الروائية بحرفية شديدة وتمكن فذ بين أحداث تلك المرحلة التاريخية الموجعة التى عاشها أهل الأندلس المسلمون فى القرن الخامس عشر الميلادى، لتسرد وقائع سقوط غرناطة بطريقة ملحمية..وتُسلط الضوء على قصة الموريسكيين (أى المسلمين الذين بقوا فى الأندلس بعد سقوط دولتهم، والذين تنصّروا بموجب التضييق الذى مورس عليهم) من خلال عائلة أبى جعفر الوراق المُقيمة فى حى البيازين، ومن ثم متنقلة بين أفراد العائلة وتفاصيل حياتهم مائة عام مرورا بثلاثة أجيال متعاقبة.. إنها رواية أسطورية، تتشابك فيها الخيوط وتتقاطع حيوات الأبطال لترسم من خلالهم الروائية قصة رائعة تستحق عن جدارة أن تعتلى بها قمة الأدب العربى، لم تنفلت التفاصيل أبدا من بين أصابعها، فأنت تجوب معها أحياء غرناطة فى وقت لم تعشه، تصف شوارعها، وأزقتها، وجبالها، وسهولها، تطرق الأبواب المغلقة وترسم الأسواق، بل تشم رائحة البرتقال والليمون والريحان، وكأنك تعيش الأيام والليالى المتعاقبة خلف الأحداث..

2فرج

رواية صادرة عن دار الشروق فى 222 صفحة..هى رحلة فى غياهب السجون، تحمل مذاق أدب المعتقلات وما يخفيه من قسوة وقهر يفتكان بالبشر..

حكاية (ندى عبد القادر) المولودة لأب مصرى وأم فرنسية فى بداية العقد الخامس من القرن العشرين..ذاقت مرارة السجون منذ الصغر، من خلال قصتها نعيش مع تجربة اعتقال ثلاثة أجيال متعاقبة، والدها، ثم تعرضها هى شخصيًا للاعتقال، ثم من بعدها أخيها الصغير..

من خلال سطور الرواية تستطيع أن تلمح ظل رضوى عاشور مختبئا خلف البطلة، فقد أصبغت عليها من روحها ومعتقداتها كثيرا.. تسجل ندى شهادة شخصية عن الحركات الطلابية فى مصر فى الستينيات والسبعينيات وحتى التسعينيات.

تصل البطلة فى نهاية الرواية إلى تعريف السجن كما رأته فتصفه بأنه تلك المساحة الضيقة بداخل كل فرد منا بناها بنفسه وجعل لها سقفًا منخفضًا ومنع من جدرانها النوافذ ثم جلس داخله بمحض إرادته ثم بدأ فى الصراخ.

من أول صفحة واقترابا من النهاية بت أسأل نفسى لماذا سُميت الرواية (فرج)؟ حتى أفصحت الروائية قرب النهاية بالمفاجأة، فالاسم ليس إلا لفرخ حمام برى ضمن سرب هبط على السجن وبنى لنفسه أعشاشا فى السقف، سقط أمام أحد الزنازين ليطلق عليه أحد المساجين واسمه المرزوقى اسم (فرج)..ومع مرور الوقت نشبت علاقة ارتباط وثيقة بين السجين وفرج، علاقة اهتمام ومودة..ثم عشرة بين الفرخ وباقى المساجين، متى يتحول هذا الفرخ إلى زميل فى زنزانة وأيقونة جمعت المساجين..الحقيقة أرى العنوان وكيفية ربط الروائية لمصير الفرخ بمصير المساجين وتهافتهم على الحُرية، نوع من العبقرية المتفردة..

الرواية برغم بساطتها تحمل شحنة كبيرة من الأسى المغلف بإنسانية تسكن قلبك كلما توغلت فى الأحداث..

3الطنطورية

رواية الطنطورية من أهم وأروع أعمال الروائية رضوى عاشور، صدرت عام 2010م عن دار الشروق المصرية، بغلاف مُعبر وهادئ..وهى رواية عنوانها التهجير وفقدان الأوطان..

فيها تطرح الروائية السؤال الأصعب، هل تتصور معنى ألا يكون لك وطن؟ معنى أن يكون وطنك حملاً يثقل كاهلك؟ معنى أن تحمل الجنسية الفلسطينية وتحمل القضية بداخلك وتتحمل وزر المعتدى وعصابات المصائر السياسية؟..

تعود الروائية مرة أخرى إلى كتابة التاريخ، وتطويعه بشكل أدبى أنيق كعادتها وكأنها صورة حية تنبض بالمعانى والأحاسيس..فلا جدال أن الروائية بارعة فى قراءة التاريخ وكتابة التفاصيل وزيارة الأماكن بعقل يتقد بالبحث التاريخى الشاق..

الراوى فى تلك القصة هى ابنة فلسطين رقية بنت أبو الصادق من قرية الطنطورة جنوب حيفا، يبدو أن الروائية اختارت تلك البقعة لكونها من أوائل القرى التى حدثت فيها مذبحة بشعة أيام الاجتياح الصهيونى الأول، وتم التستر على الكثير من التفاصيل الخاصة بها إعلاميًا، بجانب المذابح المروعة التى حدثت فى حيفا، ومن بعدها صبرا وشاتيلا..

فى بداية الرواية وضعت رسماً تفصيلياً لشجرة العائلة التى تكتب عنها من أول عائلتى أبو الصادق وأبو الأمين وحتى الأحفاد، وهو ما رأيته فكرة رائعة ومختلفة اختصرت الكثير من السرد ومنعت القارئ من التشتت الذهنى الذى يحدث عادة لو كثر عدد الأبطال بالرواية..

الرواية تنتقل من الماضى إلى الحاضر فى لقطات متتابعة بطريقة الفلاشباك..

من أقوى المشاهد التى أثرت فى نفسى هو الوصف القاسى لمشهد (كيس الخيش).. وكيس الخيش هو عبارة عن رجل يرتدى فى رأسه كيسًا من الخيش، لا يظهر منه سوى عينيه، يقف بجانب جنود الاحتلال وهم ينادون على الرجال، فكان كيس الخيش يشير إلى من نادى عليه الجنود، ويُعرّفهم به حتى يخرج من الصف، ويقتاده الجنود إلى حتفه!..

تمر الروائية بقلمها الرشيق على كل الأحداث التى عاشتها فلسطين من المذابح إلى الانتفاضات وغيرها من المسكوت عليه فى تاريخ الأرض المحتلة..

إنها نقطة نور لجيل لم يعرف أو ربما سمع ولم يقرأ التفاصيل..وتذكرة لجيل أكبر قد سمع وقرأ وربما غض البصر!..

4- نهاية الرحلة

يوم 26 مايو هو ذكرى ميلاد الروائية والأستاذة الجامعية رضوى عاشور، جاء يوم ميلادها ليذكرنا بأن الأقلام العظيمة لا تموت، والأفكار القيمة لا ترحل، وبأن الأدب المختلف يظل للأبد هو عنوانا للأوطان ووجها لتحضرها.. رحلت رضوى عاشور..المبدعة والإنسانة التى صاحبت رحلتها الأدبية مشروعاً للحرية وصرخات لم تخش أن تطلقها فى وجه الظلم والاستبداد.. هى الزوجة التى وصفها زوجها الشاعر الفلسطينى مريد برغوثى بكلمات يقول فيها عن رفيقة عُمره بعد رحيلها:

«ابتسامتها رأى، وموضع خطوتها رأى، وعناد قلبها رأى، وعزلتها عن ثقافة السوق رأى»

وأختمها أنا بكلمات عنها كتبتها هى ذاتها بقلمها الحالم.. كلمات تُشبهها وتخلد ذكراها فى تاريخ الأدب العربي:

«لأنى أشعر بالخوف من الموت الذى يتربص وما أعنيه هنا ليس الموت فى نهاية المطاف

فحسب، ولكنى أعنى أيضًا الموت بأقنعته العديدة..أعنى الوأد..أنا امرأة عربية ومواطنة من العالم الثالث وتراثى فى الحالتين تراث الموءودة، أعى هذه الحقيقة حتى العظم منى وأخافها إلى حد الكتابة عن نفسى وعن آخرين أشعر أننى مثلهم أو أنهم مثلى».

رحم الله روائية عظيمة من زمن المبدعين..