بطرس دانيال يكتب: سلام وتحية

مقالات الرأي



يعلّمنا السيد المسيح بقوله: «السعادةُ فى العطاء أعظمُ منها فى الأخذ» (أعمال الرسل 35:20). نحن نعيش زمن الأبطال، ولكن نَود أن نمنح هذا اللقب الشرفى المتميز للأطباء والممرضين وكلِّ مَن يعمل لإنقاذ الجنس البشرى من وباء الكورونا. كم من هؤلاء تعرّضوا للعدوى ووقعوا أسرى لهذا المرض نتيجة ما يقومون به من تضحية وتحدّ حتى يتم شفاء المرضى؟ وكم هؤلاء الذين ماتوا نتيجة العدوى أو الضغط العصبى من ساعات العمل؟ كم هؤلاء الذين انتحروا لأنهم لم يتحمّلوا ما يشاهدون أمامهم من مرضى ميئوس من شفائهم؟ لا ننكر أن لقب البطولة يُطلق على فئاتٍ مختلفة وفى مجالات عدّة، ولكننا اليوم أمام أبطال فى سبيل الغير وليسوا لذاتهم، جميعهم يعمل من أجل بث الأمل والرجاء فى نفوس المرضى حتى ينالوا الشفاء، كما أنهم يجدون سعادتهم الحقيقية فى الدور الذى يقومون به، ولا يبالون بأى تعبٍ يحلّ عليهم، أو ما يدفعونه من مخاطرةٍ ومجازفة فى سبيل الآخرين. نستطيع أن نتعلّم منهم هذه الروح ونتعاون معهم بشتّى الطرق والوسائل. هذا يذكّرنا عندما أقامت نقابة الأطباء بإنجلترا عام 1920 حفل تخرّج دفعة من الأطباء الجدد بحضور رئيس الوزراء، وأثناء الاحتفال قام النقيب ليُبدى بعض النصائح الضرورية والمهمة لهؤلاء الخريجين، ثم حَكَى لهم موقفاً حيّاً حدث معه ليقتدوا به قائلاً: «جاءت امرأة عجوز إلى منزلى بعد منتصف الليل وأيقظتنى من النوم مستغيثة بى: «أرجوك يا دكتور، أن تأتى معى لأن ابنى مريض ويحتضر، فقمتُ للتو غير مبالٍ بالعواصف الرعدية الشديدة والبرد القارس والمطر الذى لم يتوقف، وكانت تعيش فى ضواحى لندن، وكان مسكنها عبارة عن غرفةٍ صغيرة متواضعة، ووجدتُ ابنها يرقد فى زاويةٍ منها يتألم ويئن، وعندما قمتُ بواجبى كما يجب، أعطتنى كيساً صغيراً به بعض النقود، فأعدته لها مرةً أخرى بلطفٍ معتذراً عن عدم أخذه، ووعدتها بأننى سأتابع حالة ابنها حتى وهبه الله نعمة الشفاء الكامل. هذه هى مهنة الطبيب التى تتسم بالرحمة والشفقة والتضحية، كما أنها الأقرب إلى قلب الله». وما كاد النقيب ينهى كلامه حتى قام رئيس الوزراء متجهاً نحو المنصّة ووقف أمام الميكروفون قائلاً: «اسمح لى أيها النقيب بتقبيل يدك!... كنتُ أبحثُ عنك منذ عشرين عاماً! فأنا ذلك الابن الذى ذكرت حكايته! الآن والدتى الحبيبة بين يدى الله، وكانت وصيتها الوحيدة لى أن أبحثُ عنك لأكافئك عمّا قمتَ به من عملٍ خيّرٍ معنا عندما كنّا نعيش فى ظروفٍ صعبة». إنه ديڤيد لويد ﭼورﭺ الذى شغل منصب رئيس الوزراء فى الفترة (1916-1922). نتعلّم من هذا المثل الرائع أن العمل عبادة، وكل مَن يبذل مجهوداً أو يقوم بتضحيةٍ فى سبيله؛ إنما يعبّر عن روح البطولة الحقيقية التى تعتمد على روح العطاء وليست موهبة الذكاء، كما أن الله العادل يكافئنا على كل ما نقوم به فى سبيل الغير بإخلاصٍ وتفانٍ، ويبارك الله فى الشخص الذى يفعل هذا. إذاً يجب علينا ألا نعتبر وظيفتنا واجباً ثقيلاً نؤديه مقابل ربح مادى أو أجر نحصل عليه فى نهاية الشهر، ولكنها رسالة سامية من أجل خيرنا وخير الآخرين والمجتمع الذى نعيش فيه. كما يجب علينا أن نتحلّى بروح المبادرة والخدمة فى سبيل الغير، وأن نعمل بإرادة التحدّى والصمود لأنها تساعدنا على إتمام واجباتنا مهما واجهتنا صعوبات وعراقيل. ونتخذ لحياتنا هدفاً، ونسعى إلى تحقيقه بكلّ عزمٍ وحزم، دون التخوّف من الفشل، ولا ننسى أن عادة التشكّى أو التذمّر تُحبط عزيمتنا وتقتل فينا روح الحماس والتضحية، وتكون النتيجة المحتومة هى الوقوع فى الكسل والامتناع عن القيام بواجبنا. إذاً يجب علينا ألا نبخل بما منحنا إياه الله فى سبيل خير الآخرين، كما يجب علينا أن ندّخر عطايا الله لنا ونسعى لاستثمارها كل يوم ببذل الذات ونكران أنفسنا من أجل الصالح العام. فالواجب لا ينتهى طالما نحن على قيد الحياة، وهذه سمة النفوس الكريمة والسامية، لأنها تعتبر الواجب قبل كل شيء دائماً أبداً، فالإنسان صاحب الضمير الحى يشعر بالمسئولية تجاه الجميع، ويقوم بواجبه أحسن قيام، كما أنه لا يختلق الأعذار للتهرّب منه. أخيراً يجب علينا أن نشكر هؤلاء الأبطال الذين يقدّمون حياتهم من أجل المرضى بكلِّ تفانٍ وصمود وإخلاص ونكران الذات، طالبين من الله أن يباركهم ويعوّضهم عمّا يقومون به. ونختم بالمَثَل الإنجليزى: «مَن لا يريد حينما يستطيع؛ لن يستطيع حينما يريد».