محمد مسعود يكتب: هاجر المصرية.. «أم العرب»

مقالات الرأي



كانت أميرة فرعونية أسرها الهكسوس وملك أورابيس كان الطريق للقاء النبى إبراهيم

فى السطور التالية نفتح دفتر التاريخ، بحثا عن عظمة كل ما هو مصرى، لنعرف ونكتشف ونتحقق ونتأكد من عظمة هذه الأمة التى أراد لها الله أن تكون مركزا للأرض، وأن يخرج من نبتها وحضارتها أعظم الأمم، وأعظم الشخصيات التاريخية. وفى السطور التالية، نكشف ونتعرف على عظمة الخالق، العالم بالسرائر والضمائر والهواجس والخواطر، وكيف اختار للأميرة المصرية هاجر، تلك الحياة، من حياة القصور إلى الحياة الخشنة.. من التعاسة رغم حلاوة العيش.. إلى اليقين والإيمان والرضاء والسعادة، فى أحلك الأوقات، وأمر اللحظات.. فلا يذل من كان الله حسبه.. ولا يخيب عبد أراد وجهه الكريم.

1الأميرة.. والجارية

شربت الأميرة الشابة كأس الهواجس، فحولت رأسها، إلى مسرح للخيالات وسيئ الظنون، ترى أيرحم الإله مملكتهم، وينقذ أميرها وحبيبها، ليعود إلى مملكته، آمنا منتصرا.. لتستقر أمور المملكة من خطر الهكسوس، وتأمن مدينة منف بعد خوف، أم يلحق بهم ذل الهزيمة وعارها، ويتحول الأمراء إلى عبيد.. وتسكن الأميرات.. جناح الجوارى.

ولم تفق الأميرة الشابة السمراء الجميلة «هاجر» من أفكارها إلا على صخب يدل على قتال عنيف عند باب القصر، هنا تأكدت الظنون، وتحققت الهواجس، وصدقت النبؤات.. وإذا بوصيفتها تجرى مسرعة (الهكسوس.. الهكسوس).. مرت اللحظات ثقيلة، صعبة، عليها أن تتخذ قرارا فوريا.. إما الهرب.. وإما الإذعان والاستسلام.

وجدت «هاجر» نفسها تتجه نحو أبواب القصر الذى أقتحمه الهكسوس، اتخذت قراراها الأخير.. قرار الموت.. الاشتباك والقتال من أجل الموت، فلا سبيل للحياة مع ذل كلمة «جارية» ووقعها المذل، الثقيل على النفس، وما إن خرجت.. حتى لمح قائد جنود الهكسوس تاجها المزين بثعبان «الأريوس»، فصرخ فى جنوده قائلا (الأميرة.. لا تقتلوها)، لتقع هاجر أسيرة، لم تنجح فى نيل الراحة التى لا تتمثل لها إلا فى الموت.

كانت الأميرة المصرية الشابة ذات العينين الواسعتين، فى منتصف العشرينيات، ظنت أنها النهاية، ولم تدرك أو تعرف أنها مجرد بداية، فنهايتها كأميرة، كانت بداية وإعداد لها لتكون «أماً للوارثين» فى سيناريو بديع، أراد له الخالق أن يتحقق، وأن يخرج من رحم الأميرة السابقة والجارية المصرية الحالية أمة سترث الأرض من مشارقها إلى مغاربها.

2دموع الأميرة

وقف قائد القوات فى زهو المنتصر، الذى حقق أعظم انتصار، بسبب الأميرة التى أحاط بها الجنود، كمن أمسكوا بكنز ثمين، وأمر قائد الحملة جنوده بإرسال «هاجر» إلى ملك «أواريس» علاوة على الغنائم والأسلاب التى حظى بها من القصر المسلوب، ودعت هاجر، قصرها بنظرة قصيرة، حزينة، وثمة ألم يعتصرها وغصة فى حلقها، ودموع أبت أن تذرفها أمام الجنود، فمشيت وسطهم مرفوعة الرأس، لم تذرف دمعة واحدة.

وأمام ملك «أورايس» تجردت الأميرة من تاجها، وأخبرها الملك أن أميرها وحبيبها قتل بسيوف جنوده، وسلمها إلى رئيسة الحبيسات لتنطلق بها إلى جناح الحريم.. لتكون محظية للملك.. وفى غرفتها أطلقت هاجر العنان لدموعها التى لم تتوقف، ولم تنجح فى أن تزيل ذلك الجبل الجاثم فوق صدرها من الحزن والهموم.

وعندما فشل الملك فى النيل منها.. زهدها، وساءت معاملتها فى قصره، ومما يؤكد حكمة الخالق بديع السموات والأرض أن تكون السيدتان « هاجر وسارة» أسيرتان عند نفس الملك.

فقد اختطف جنوده السيدة سارة زوجة سيدنا إبراهيم خليل الرحمن، الذى جاء على الفور عارضا أن يفتديها، لكن الملك الذى فشل فى النيل منها أيضا رفض الفدية، وأعطاها لسيدنا إبراهيم بلا مقابل، ولكون نبى الله ذو جلال وهيبة، فقد أعطاه الملك هدايا ثمينة.. وأهدى زوجته السيدة سارة، الجارية المصرية السيدة هاجر.. لتكون جارية لها.

3الطريق إلى الله

خرجت هاجر مع القافلة، حزينة صاغرة، مجرد جارية.. لم تكن تدرى أشرا أريد لها.. أم أراد لها ربها رشدا.. وقتها كانت ناقمة على جميع الآلهة التى لم تحفظ مُلكها الضائع وحبيبها القتيل، وفى مكان محدد أوقف سيدنا إبراهيم القافلة للصلاة والراحة ودُقت الخيام، وذهب الجميع للصلاة.

شاهدت هاجر للمرة الأولى صلاة المسلمين، يصلون فى العراء، لا معبد، ولا مذبح، ولا كهان أو آلهة، ولا بخور.. وتساءلت فى حيرة (لأى إله يصلون ؟)، وكيف يخرون ساجدين بغير تمثال، وقد سكن النور وجوههم وغشيت السكينة نفوسهم وقلوبهم، ورغم كل ما كانت فيه شعرت بطمأنينة تسرى فى نفسها، وتوجهت إلى خيمة السيدة سارة لتسألها عن الإله الذين يعبدوه.. عشرات الأسئلة وعشرات الردود دارت بينهما، وخرجت هاجر لترى الدنيا بعين جديدة وقلب سليم، بعد أن شُفى القلب من الهم، وجُبرت الروح من الكسر، وتحولت أغلال الأسر إلى مفاتيح لأبواب الحياة.. ولذة الإيمان، وشعرت للمرة الأولى بالقرب من الله.. فهى لم تشعر أبدا بهذا القرب فى معابد رع وبتاح وأواريس.. وخشعت هاجر للرحمن.

ونامت هاجر فى خيمة الجوارى الخشنة.. ربما لم تنعم بتلك الراحة أبدا فى مخادع القصور، ورأت فيما يرى النائم أن روحها تسبح فى بحر من النور، وأن ماء طاهرا غسل صدرها وأزال عن قلبها المكاره، وأن عطرا طيبا يفوق أحلى عطور قصرها فى مدينة منف، قد غسلها.. وصحت من حلمها مرتاحة هادئة.. غير أن رائحة العطر الذى غسلها فى المنام لم تذهب، فهل مازالت تحلم.. وظلت فى شكها حتى باغتتها السيدة سارة بعبارة (ما أطيب ريحك اليوم يا هاجر).

4هذا ما أراده الله

وفى الليل التف الجميع حول سيدنا إبراهيم، وألقوا إليه مسامعهم، فراح يحدثهم عن عظمة الخالق وقدرته وحكمته فى خلقه، وكانت هاجر تستمع إليه بنفس متفتحة، وقد تعلمت صلاة المسلمين من سيدنا إبراهيم الذى كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين، وفى تلك الليلة أمر الله رسوله لوط بالذهاب إلى مدينة سدوم، وحز فى نفس خليل الرحمن فراقه بعد أن اتخذه ولدا وعلمه وآمن به لوط ابن شقيقه، وخرج سيدنا إبراهيم فى العراء ونادى ربه (رب هب لى من الصالحين).

واستمعت السيدة سارة مناجاة خليل الرحمن لربه، وهو ما أحزنها وأدمى مشاعرها، لعدم قدرتها على إنجاب ذرية لخليل الرحمن، وظنت أنها بدعائها شقية، ولا يستجيب الله لها، فقد دعوته مرارا وتكرارا، لكن هذا ما أراده الله.. ورأت هاجر تصلى فى خشوع والدموع تملأ وجهها، فجاءت فى رأس السيدة سارة فكرة أن تهب لسيدنا إبراهيم إحدى جواريها.. ولتكن هاجر.. كونها عاشت حياة القصور وتعلمت تعاليمهم وهى خير من تكون أما لابن صالح من ذرية خليل الرحمن سيدنا إبراهيم وأماً للوارثين.

وبشر الله خليله، بأن ذريته سترث الأرض من مشرقها إلى مغربها، فحكى للسيدة سارة وهو سعيدا ببشارة الله، فالله لا يخلف وعده، قررت السيدة سارة أن تهبه هاجر.. لتكون أما لتلك الذرية المباركة.

5اليقين

وما إن شعرت هاجر بآلام الحمل، حتى صلت لله تضرعا وشكرا (رب أوزعنى أن أشكر نعمتك.. رب اجعله من الصالحين)، ونامت هاجر وسمعت هاتفا يناديها ويخبرها بأن الله قد سمع ضراعتها وسيهب لها ولدا اسمه إسماعيل أى المسموع من الله.

وأوحى الله إلى سيدنا إبراهيم أن يأخذ هاجر وإسماعيل إلى حيث يريه، فانطلق بها إلى الجنوب ونزلوا بواد غير ذى زرع عند بيت الله المحرم، الذى يطل على جبل قبيس، وصنع لهما مسكنا وترك لهما جرابا من التمر والماء وذهب، وجريت هاجر خلفه (لماذا تتركنا يا إبراهيم ؟).. وكررت جملتها ثلاث مرات، وخليل الرحمن لا يرد، قبل أن تقول (أأمرك الله بهذا ؟).. فرد سيدنا إبراهيم (نعم) فقالت (إذا لن يضيعنا) ورفع سيدنا إبراهيم يديه بالدعاء (ربنا إنى أسكنت ذريتى بواد غير ذى زرع ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).

حل الليل وهاجر وإسماعيل فى الصحراء، حولها جبال قبيس والصفا والمروة وبحر من الرمال، أيقنت هاجر وقتها أنها نشأت فى القصور لتعلم كيف تربى سيدنا إسماعيل الذى تخرج من ذريته الأسباط.. وفرغ جراب الماء والتمر الذى تركه خليل الرحمن لزوجته، فطافت بين الصفا والمروة سبعة أشواط لتنقذ ابنها من الموت عطشا، قبل أن تنفجر البئر أسفل قدميه.

وعندما أرسل الله رسله إلى مدينة سدوم للانتقام ممن يفعلون الفاحشة، مروا على سيدنا إبراهيم وبشروا سارة بإسحاق ويعقوب، وكان عمر السيدة سارة آنذاك نحو الخامسة والسبعين، بينما كان سيدنا إبراهيم قد تخطى منتصف الثمانين، وولدت السيدة سارة إسحاق وتعنى (الضحك) بعد ولادة سيدنا إسماعيل بنحو 13 عاما.

6- الأم.. والحماة

نجحت السيدة هاجر فى مهمتها التى أوكلها الله إليها بحسن تربية ابنها نبى الله إسماعيل عليه السلام، فقد علمته الشجاعة، والكتابة، وكان إسماعيل شابا يهوى الصيد، ويخرج فى رحلات للصيد وفى إحداها حاول ترويض الخيل العربية، لكنه لم ينجح من المرة الأولى، لكنه بعد مرات نجح فى ترويضها وعاد ممتطى فرسا عربيا، ونظرت إليه أمه فى إعجاب نظرا لشجاعته.. وفكرت فى أمر زواجه.. وبدأت تبحث له عن زوجة.

لكن رغبة إسماعيل عليه السلام جاءت فى اختيار زوجته الأولى صدا بنت سعد وهى فتاة جميلة من العماليق، ووافقت هاجر رغم أن قلبها لم ينشرح للعروس، لكنها أبت أن تبدى اعتراضا حتى لا تعكر سعادة نبى الله إسماعيل، وبعد الزواج أظهرت صدا سيء معشرها، ورفضها للحياة الجافة التى كانت تعيشها مع سيدنا إسماعيل.. وعندما نزل خليل الرحمن بمنزلها صرفته وأبت إطعامه أو مساعدته، غير أنها لم تكن تعلم أنه نبى الله وخليل الرحمن.. فقال لها: (عندما يعود زوجك أخبريه أن يغير عتبة داره).. الدار التى تركتها هاجر واتخذت محرابا بعيداً تتعبد فيه إلى الله حتى لا تسكن بيتا واحدا مع صدا.

ونفذ إسماعيل نصيحة الأب وأوامره بأن يغير عتبة داره، وفى تلك المرة لجأ إلى السيدة هاجر لتختار بنفسها العروس، فما كان منها إلا أن أرسلت إلى معارفها فى مصر طلبا لعروس تكون أما صالحة لذرية سيدنا إسماعيل.. وعاد الفرسان من مصر بالعروس الجديدة التى اختلف المؤرخون على اسمها.. فمنهم من قال إنها (عاتكة بنت عمرو الجرهمى)، ومنهم من قال إنها (شاملة بنت مهلهل) لكن أيا ما كان اسم العروس، فهى المرة الثانية التى يختار الله زوجة مصرية لتكون أما للوارثين.. فزوجة خليل الرحمن مصرية، وزوجة المسموع من الله وحاملة ذريته أيضا مصرية.

ورزق سيدنا إسماعيل من زوجته بأول الأسباط نابت الذى تعلم مع أشقائه القراءة والكتابة من السيدة هاجر التى علمتهم الكتابة على الرمال، وعندما أمر الله خليله ببناء بيته الحرام ومعه إسماعيل، شاركت هاجر المصرية فى تقطيع الحجارة جبلى حراء وقبيس.

7- البلاء المبين

كان سيدنا إبراهيم يرى الرجال يقدمون لآلهتهم قرابين من أبنائهم، يقدم كل منهم ابنه البكر قربانا للإله، وعندما جاءته رؤيا ذبح ابنه عليهما السلام، أخبره، فقال ستجدنى إن شاء الله من الصابرين، وفى طريقهما للجبل اعترضهما الشيطان فرماه كلاهما بسبع جمرات، فذهب عدو الله إلى هاجر ليخبرها بأن خليل الرحمن يزعم أنه رأى رؤيا ذبح ولده، وقد جئتك لتنقذى ابنك الوحيد من الذبح.. فرمته بسبع جمرات أيضا لتصرفه عنها، ليقينها بأن الله أرحم الراحمين.

كان يقين هاجر بالله لا ينقطع ولا يزول.. فقد جرى الإيمان فيها مجرى الدم، لذا جاء الجميع من كل فج عميق لوداعها فى لحظات الاحتضار.. لوداع سيدة مكة أو بكة فى ذلك الوقت، لتموت سيدة من أعظم سيدات الأرض الأميرة المصرية أم العرب وأم الوارثين على روحها السلام.