اليوم الـ 15 من شهر رَمَضَان المُعَظَّم 1441هـ

أبراج

بوابة الفجر


 
*الباب الثّالث (الحُلم تحقيق رغبة)
بعد أن تأكد فرويد من صدق نظريّته من أن الأحلام ليست عبثية لكنها ظاهرة نفسيّة صادقة ، تظهر تساءلات عديدة ، من أين تأتى المادة التى تتحول إلى حلم ؟ ماهى خصائص أفكار الحلم ؟ هل بإمكان الحلم أن يُعلمنا شيئاً جديداً عن عملياتنا النفسية الباطنة ؟ هل يُمكن أن يُصحّح الحلم لنا فكرة خاطئة نعتقد فى صحتها أثناء يقظتنا فى النهار؟ على أن فرويد فى هذا الباب يُركّز على خاصيّة واحدة للحلم والتى وردت فى الباب السابق وهى تحقيق الرغبة (رغبة فرويد فى علاج إرما) لكن يذكر فرويد أن أحد الأحلام قد يحمل صفة تمنّى تحقق رغبة ، بينما حلمٌ آخر يحمل صفة درء مخافة ، وثالث مُجرّد فكرة ، ورابع يستحضر ذكريات قديمة لاغير.

يُخبرنا فرويد أن هناك حلم يتكرر ، فإن قام بالتهام أنشوجة أو أسماك مُملحة فى وجبة العشاء فإنه غالباً يستيقظ فى منتصف الليل ظمآناً يبحث عن كوب ماء وفى كل مرة يكون إستيقاظه بعد حلم ثابت مُتكرر ومحتواه أن فرويد يشرب ماءً حلو المذاق ، ولو كان الحلم يسد الظمأ لما إستيقظ فرويد من نومه ولحل الحلم محل العمل الحقيقى لكن الحاجة للإرتواء لايُمكن إشباعها بالحلم فقط ، وهنا يسوق فرويد حلما لأحد طلابه فقد كان هذا الطالب ثقيل النوم وطلب من مُدبّرة المنزل أن توقظه تمام السابعة ، وفى السابعة بدأت المُدبّرة تصيح بأن يستيقظ ، لكنه عوضاً عن ذلك شاهد نفسه فى الحلم جالساً فى المُستشفى وفوق رأسه لافتة مكتوبٌ عليها "السيد ب ، طالب طب ، السن 22 سنة ، الفرقة الثانية" وقال لنفسه فى الحلم "لا حاجة بى أن أذهب للمستشفى مادمت هناك بالفعل"  ثم تقلب فى فراشه واستمر فى النوم ، وهكذا حقق الطالب "رغبته" فى التواجد فى المستشفى مع "رغبته" أن يكون فى فراشه.

وقد يحمل الحلم فى طياته تحقيق أكثر من رغبة ، فقد رأى فرويد فى الحلم نفسه نائماً بجوار زوجته وكان قد شرب كوب الماء المُجاور له قبل أن ينام ، رأى نفسه يطلب من زوجته كوب الماء الذى بجوارها رغبة منه فى البحث عن السهل بدلاً أن يقوم للبحث عن الماء فى المطبخ ، فناولته زوجته وعاءً خزفياً يُوضع فى رماد الموتى فشرب منه وكان الماء يحمل مذاقاً مُملحاً ، فسّر فرويد الحلم بأن طلب كوب الماء من زوجته هو "رغبة" فى الشرب وأيضاً "رغبة"فى الراحة بدلاً أن يقوم ليبحث عن الماء فى المطبخ فطلب كوباً قريباً منه ، الوعاء الخزفى كان وعاءً حقيقياً جاءه هديّة من إيطالياً وهو مُخصص  لوضع رفات الموتى بعد حرقهم وكان تحفة لكنه أهدى الوعاء لأحد أصدقائه فكانت رؤيته للوعاء بمثابة "رغبة" فى إسترجاع الوعاء الثمين ، كما أن الماء مالح المذاق يتفق مع إحتمال أن يكون الماء قد إختلط برماد متبقى فى قعر الوعاء.

وكان أن إحدى مريضات فرويد قد خضعت لعملية فى فكها فأمرها طبيب الأسنان بوضع جهاز على فكها باستمرار لتسريع العلاج لكنها كانت تضجر وتقوم بنزع الجهاز عند نومها ، وشاهدت فى الحلم بأنها فى شرفة/بلكون الأوبرا مستمتعة بالعرض بينما يرقد الشاب "كارل ماير" فى المستشفى يُعانى من ألم فى فكه ، فقالت فى نفسها فى الحلم بأنه لاحاجة لها للجهاز طالما لاتشعر بالألم ونزعت الجاهز ، يُفسّر فرويد حلمها بأن رغبتها فى نزع الجهاز جعلتها تنقل ألمها إلى شاب تعرفه يُدعى "كارل ماير" لكنه آخر شاب يُمكن أن تهتم لأمره فنقلت إليه ألمها "رغبةً" منها فى التخلص من الألم.

صديق افرويد قصّ عليه حلماً لزوجته الشابة بأنها رأت فى الحلم بأن الحيض قد جاءها ، فعرف فرويد بأن تلك الزوجة الشابة قد إنقطع حيضها لأنها حامل ورؤيتها للحيض فى الحلم هو "رغبة" فى أن تستمتع بحياتها دون مسئوليات الأمومة ، وأخرى حلمت بأن بقعاً من اللبن على صدرها ففسّر فرويد الحلم على أنها غالباً حامل فى طفلها الثانى لأن "رغبة" الأم تزداد فى إشباع طفلها الثانى أكثر من الطفل الأول.

ويذكر فرويد أن أحلام الأطفال تحمل صفة الرغبة بوضوح كما أنها تكون أبسط من أحلام البالغين و أيسر فى تفسيرها ، فكان أن فرويد يقضى صيف 1896 فى أحد القرى الجبلية مع أسرته وأخبر إبنه وابنته بجمال كوخ سيمونى "أكواخ للعامة توجد فى جبال النمسا يلوذ بها الناس وقت الخطر أو للإستراحة" وهذا الكوخ فوق جبل داخشتايْن ، وكان أطفاله ينظرون للكوخ من بعيد من خلال المنظار ، أخذهما فرويد فى نزهة وكلما صعدو تلاً سأله إبنه ذو الخمس سنوات "هل هذا جبل داخشتايْن؟" فيجيبه فرويد بالنفى وأن تلك مُجرد تلال حول الجبل  ، وبعد فترة سكت الطفل عن السؤال ، فى اليوم التالى كان الطفل مسروراً وأخبر والده فرويد بأنه حلم بأنه كان داخل كوخ سيمونى ، وهنا عرف فرويد أن الطفل كانت "رغبته" أن يزور الكوخ وكان يسأل عن جبل داخشتايْن باستمرار ليعرف إن كان قد إقترب من الكوخ أم لا ، وعندما فشل فى زيارة الكوخ فى الواقع زاره فى حلمه ليُحقّق "رغبته".

وكان فرويد قد إصطحب مع أطفاله فى نفس الرحلة إبن الجيران ويُدعى إميل وعمره إثنا عشر عاماً وله هيئة الفروسيّة ويبدو أن إبنة فرويد الكبرى ذات الثمانية أعوام ونصف فقد وجدته لطيفاً ، وقصت على والدها فرويد أنها رأت فى الحلم بأن أميل قد أصبح واحداً من الأسرة مثل أخوتها ينام معهم ويُنادى فرويد وزوجته "بابا وماما" ، ثم جاءت زوجة فرويد والدة الطفلة فألقت ألواح من الشكولاتة ملفوفة فى ورق أزرق وأخضر تحت السرير ، وهنا صاح أخوتها بأن هذا الحلم مُجرد هراء وعبث لامعنى له ، لكن الطفلة دافعت عن الحلم أمام والدها فرويد قائلة "أما أن يكون أميل واحد منا فهذا مستحيل لأنه ليس أخونا فعلاً ، لكن الشكولاتة ليست مستحيلة" ، فسّر فرويد حلم إبنته بأن "رغبتها" فى أن يكون أميل معهم باستمرار جعلها ترى أنه كأخوتها لأنها فى عمرها هذا لاتعرف إلا عاطفة الأخوة لطفل تجده لطيفاً ، كما أن أميل كان فى الواقع طلب منها ومن أشقائها أثناء اللعب أن ينتظرو "بابا وماما" ما جعل الطفلة تتمنى تلك القرابة ، أما ألواح الشكولاتة فقد عرف فرويد أنه أثناء رحلة السفر للقرية توقف فى إستراحة وبينما هو مشغول طلبت الطفلة من والدتها ألواح شكولاتة توجد فى ماكينة آلية لكنها والدتها رفضت ، ولما لم تتمكن الطفلة من تحقيق "رغبتها" فى شراء الشكلاتة حققتها فى حلمها ، أما وضع الشكلاتة تحت السرير فيستوجب سؤال الإبنة عن الألعاب التى تُخفيها تحت السرير باستمرار.

أما إبنة فرويد ذات السنة والنصف فحدث أنها يوماً أصيبت بنوبة قيئ فمنع عنها فرويد الطعام طوال اليوم ، وأثناء نومها كانت تهلوس قائلة " أنا آنا فـ ر ويد ، فـ ر يز ، كـ ر يمة ! " عرف فرويد بأنها تناولت الكثير من فاكهة الفريز/الفراولة ما أدى لمشاكل بمعدتها ولما مُنع عنها "رغبتها" فى إلتهام الفريز حققت رغبتها فى حلمها ، كما أن كلمة "أنا آنا فرويد" يُشير إلى إستعمال الطفلة لإسمها بالكامل وهو "رغبة" فى إثبات نفسها بشكل مَلَكِى كالأميرات أمام الآخرين فهكذا علمتها أمها. 

أما إبن اخيه ذو السنتيْن فقد أوكل إليه أن يحمل سلة كريز ليُقدّمها لعمه فرويد بمناسبة عيد ميلاده ، وكان الطفل مُتشبّثاً بالسلة ولم يعطها لفرويد لكنه كان يقول لفرويد باستمرار "فيها كريز ، فيها كريز" ، وعادةً ماكان الطفل يحلم بشكل شبه يومى بالضابط الأبيض وهو ضابط الحرس الإمبراطورى كان قد شاهده فى الواقع وأعجب بملابسه ، لكن فى صباح اليوم التالى كان مسروراً جداً لأن هرمان "الضابط الأبيض" أكل الكريز كله.

وهنا يعود فرويد ليؤكد أن "الأحلام تحقيق رغبة" فنحن نعترف ضمنياً بالمعنى العلمى للحلم بأنه تحقيق لرغبة صعبة ، فنحن حين نبلغ هدفاً صعباً نطير فرحاً قائلين "ولا فى الأحلام".

*المصدر: كتاب تفسير الأحلام لسيجموند فرويد ، تحت إشراف الدكتور مُصطفى زيور 1969.