عادل حمودة يكتب: العطسة الصينية

مقالات الرأي



أسقطت الهيمنة الأمريكية وفككت الوحدة الأوروبية وتربعت على عرش القوى العظمی في نظام سیاسی مختلف

احتياطى العملات في الصين «2 تريليون و454 مليارا و275 مليون العن دولار» يكفي لمحو الرأسمالية المتوحشة من الوجود

الدول الوطنية تسترد سلطتها بعد أن أضعفتها العولمة ولكن الفشل في علاج أزمات ما بعد كورونا يضاعف من عدد الدول الفاشلة

لم يستطع الطب بكل خبرته وأبحاثه وغروره أن يثبت وجوده أمام فيروس يسكن المليون منه على طرف رأس دبوس إبرة ويضع على رأسه تاج الوباء ويحمل لقب كورونا.
عجز الأطباء عن صد حالات الجرف الجماعي في نهر الموت الذي يقذف بالبشر إلى الضفة الأخرى وكأننا دمي في مسرح عرائس تحركها يد مجهولة كما تشاء دون أن يكون لنا حق الاعتراض.
تحولت المدارس والمسارح والمتاحف إلى بيوت أشباح وأصبحت الطائرات والسفن والقطارات أطنانا من الخردة واتفقت قنوات التليفزيون المحلية والعالمية على جملة واحدة: خليك في البيت لتصبح بيوت ملياري إنسان أكبر حجر صحي في التاريخ.
تجمدت العولمة ولم تعد الدنيا قرية صغيرة ونالت الدول المختلفة (القوية والضعيفة الثرية والفقيرة المتدينة والفاجرة المتغطرسة والمتواضعة) النصيب نفسه من الشعور بالعجز ليحمل زمن ما بعد كورونا مزيدا من الانكفاء على الداخل وتراجع القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك والبحث عن الاكتفاء الذاتي ومعارضة الهجرة.
إنها رؤية ريتشارد هاس الرئيس السابق المجلس العلاقات الخارجية (نيويورك) التي اختلفت تماما عن ما سمعت منه عندما التقيت به في صيف ۲۰۱۳.
حرب عالمية مباغتة.. بلا جيوش.. بلا أسلحة.. اشتعلت رغما عنا .. وسخرت من النظام الدولى القائم.. واستهانت بمتاعبه وصراعاته وقضاياه.. ووضعت عقائده وأيدلوجياته السياسية في مأزق صعب وخيرته بين التغيير والتدمير.
ومثل ما سبق من حروب عالمية.. ستنهار إمبراطوريات وتتوج غيرها .. وتهزم أفكار وتنتصر غيرها .. وتصعد دول وتهبط غيرها.
شطبت الحرب العالمية الثانية بريطانيا وفرنسا من قائمة القوى العظمى وعمدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ليتصدرا القائمة.. ولكن.. الحرب الباردة التي انفجرت بينهما انتهت بهزيمة الشيوعية وانتصار الرأسمالية فيما عرف بنهاية التاريخ».. ووصف بعالم القطب الواحد » الملوث بالغطرسة الأمريكية.
غطرسة ضاعف من تعسفها حكم اليمين الجمهوری) كلما فاز برئاسة البلاد حتى انفلتت تماما بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الذي تصرف على أنه الرب الأعلى للكون المعفى من العقاب مهما ارتكب والناجي من الذنب مهما فعل.
بقرار فردی منه منع مواطني جنسيات متعددة من دخول الولايات المتحدة ومن طرف واحد بنى سورا على الحدود مع المكسيك، ودون مباحثات ثنائية ألغى اتفاقيات للتجارة الحرة مع الصين ودون استشارة الفلسطينيين فرض ما سمي بصفقة القرن وتعهد بتنفيذها رغم أنوفهم.
وبإلغائه الاتفاق النووي الإيرانى دون مشورة الشركاء الأوروبيين أصيبت الرأسمالية بفيروس الاختلاف وظهرت على أفراد عائلتها أعراض حمى الانقسام.
وبتطاير فيروس كورونا بدت من بعيد أصوات أجراس قداس وفاة الرأسمالية.
لقد قامت الرأسمالية على مبدأ: دعه يعمل دعه يمر، الذي عبر عنه نبى الاقتصاد الحر آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» المقصود به حرية الأفراد في الإنتاج بلا قيود حكومية وحرية التصدير بلا حواجز جمركية.
ولكن بسبب وباء الكورونا تلاشت حرية الانتقال من دولة إلى أخرى ولو لم تكن هناك تأشيرات دخول كما هو الحال بالنسبة المواطني الاتحاد الأوروبي (500 مليون نسمة)  وكأن الفيروس أعاد إلى الواقع ما سبق أن ألغاه النظام الدولي.
سيتفكك الاتحاد الأوروبي وتعود كل دولة فيه إلى عملتها وقوانينها وحواجزها بعد أن تصرفت دول ما مثل ألمانيا وفرنسا بأنانية رأسمالية فلم تشحص بنظرها خارج حدودها وتمد يد العون لدول شقيقة شديدة الإصابة مثل إيطاليا وإسبانيا فلحم تستمر الوحدة بينهما والأزمة كشفت عورتها؟.
لم تعد أمريكا تسيطر على أوروبا ولم تعد أوروبا تسيطر على نفسها وبدأت أعراض النهاية تظهر على الرأسمالية لتصبح فى حاجة إلى إنقاذها من الفناء لو نجت من الكورونا.
والمثير للسحرية أن الرأسمالية التى طالمت وقفت بعنجهية ضد تدخل الحكومة وجدناها فى الأزمة الأخيرة تستنجد بها وتركع أمامها فى مذلة طالبة العون والمدد مما يعنى رد الاعتبار للدولة القومية الوطنية ولو على حساب المساحات المتاحة من الديمقراطية.
لقد انهارت البورصات الغربية وأغلقت مئات الشركات الصفيرة والمتوسطة (٣٠٠ — ٧٠٠ عامل ومونلف) واستردت البطالة شراستها وفى المقابل استغلت متاجر الطعام والدواء الأزمة فرفعت أسعارها كل ساعة وجاء الرد عليها باقتحامها ونهب ما فيها وبدأت الفوضى تعبرعن نفسها.
لكن أخطر ما نتج عن الأزمة شعور كثير من مواطني الدول الرأسمالية بالصدمة بعد انكشاف قلة حيلتها فى مواجهة الفيروس والأسوأ عندما رفضت تقديم الرعاية الصحية لكبار السن وتركتهم يموتوا موتا جماعيا فى مراكز إقامتهم كما حدث فى إيطاليا٠
كل ما نسب للرأسمالية من شرور ظهر فى أيام معدودة.
فى الوقت ذاته استردت كلمة الاشتراكية سمعتها بعد أن كانت كلمة محرمة تنهى حرية من يرددها فى السجن.
عاد مفكرو الرأسمالية وعلى رأسهم عالم الاجتماع الأمريكى الشهير إيمانويل والرستين ليتذكر فضائلها بعد أن تنباً فى كتابه الأخير: هل للرأسمالية مستقبل؟ بتغير النظام العالمى المبنى على وجود مجموعة دول إمبريالية محدودة العدد تهيمن على الاقتصاد وتسيطر على الميديا وتمتلك وسائل العنف وتفرض مشيئتها على باقى الدول.
ولم يكن البحث عن بديل صعبا فالصين حاضرة بمعجزتها التنموية التى نقلتها إلى دولة عظمى ولو لم تشأ أن تقر ذلك.
ما أن أقرت الصين سياسة الإصلاح والانغتاح قبل ثلاثين عاما حتى احتل ناتجها القومى المرض الثانى وبلغ حجم تجارتها ٣٥٤ مليارا و٠ ٨٨ مليون دولار وبلغ احتياطى العملات الأجنبية فى بنوكها ٢ تريليون (التريليون ألف مليار) و٤٥٤ مليارا وه٢٧ مليون دولار.
وبذلك الاحتياطى غير المسبوق من احتياطى الدولار كان يمكن أن تنسف الصين العملات الصعبة وتدمر نظامها الرأسمالى لو ألقت فى أسواق النقد بعضا منه ولكنها لم تشأ أن ينسب إليه تدمير الغرب فقد كانت على يقين أن عوامل فنائه تكمن فى داخله.
بل إنها لم تتردد فى إعادة تشغيل مصانع أغلقت فى الولايات المتحدة نفسها ونجحت فى إدارتها ووظفت عمالة كانت قد سرحت وكأنها ساهمت فى إنقاذ نظام رأسمالى من نفسه.
ولكن رغم ذلك كله تتردد الصين فى وصف نفسها بأنها دولة عظمى وتفضل أن تصف نفسها بأنها دولة نامية.
وكانت مبرراتها: أن من بين سكانها (١٠٣ مليار نسمة أو ٠ 1-7 من سكان العالم) لا يزال هناك ٢٤٥ مليونا تحت خط الفقر والمهمة الأولى توفير المأكل والملبس لذلك العدد الغفير يلحقوا بمن سبقوهم فى المعيشة عند مستوى جيد.
وفى كتابه: هل الصين دولة عظمى؟ يكشف جين تسان رونج عن معاناة بلاده من التهديدات غير التقليدية للأمن الاجتماعى: فى الصين كثير من المناطق الريفية محرومة من المرافق الصحية والخدمات الطبية أصبحت مرتعا خصبا للأمراض الوبائية المعدية مثل سارس وإنغلونزا الطيور والحص القلاعية وإنفلونزا الخنازير والإيدز وغيرها وحالة إصابة واحدة قد تصبح وباء منتشرا فى طول البلاد وعرضها ومع انتقال الأفراد يصبح الوباء عالميا فى وقت تعانى فيه مناطق الحجر الصحى أوضاعا صعبة مما يجب معها توفير الأمان البيولوجى بمزيد من التعاون الدولى.
وجاء فيروس كورونا ليتجاوز ما قبله وليضع العالم كله فى مأزق لن ينجو منه إلا بخسائر فادحة قد تجهز على نظم وترفع غيرها ٠
وتواجه الصين أيضا عناصر انفصالية فى منطقة تركستان الشرقية تسفك الدماء وتدمر وسائل الحياة لتصل إلى أهدافها الخفية (ص ٤٨ من الترجمة العرية الناشر بيت الحكمة القاهرة).
تضع الصين تلك المبررات لتبعد نفسها وصف الدولة العظمي حتى توجه غالبية مواردها إلى الداخل لتستكمل علاج متاعبها دون أن تضطر إلى أنفاقها فى الخارج حسب ما تفرضه عليها مسئولية الدول العطس دوليا.
وحسب جين رونج فإن كثيزا من الصينين يعتقدون أن المسئولية الدولية للصين ما هى إلا شرك نصب للصين للتضحية بمصلحتها الوطنية وستار لإجهاض نهضة البلاد (صفحة١٩).
وهناك فى الغرب من يؤمن بأن التنين الصينى سينقذ العالم من الهيمنة الغربة وسيلتهم النظام الدولى القائم مثل الباحث البريطانى مارش جاك الذى نشر وجهة نظره فى كتاب نشره تحت عنوان: عندما تحكم الصين العالم.
ولكن الصين ردت على ذلك التصور بأنها تصر على سياسة التعاون بينها وبين الولايات المتحدة للخروج من الأزمات التى يتعرض لها العالم وأنها تتمسك باقتراح البروفيسور نيل فيرجيسون مدير كلية هارفاد للأعمال الذى يحمل اسم شيميركا (والكلمة مركبة من كلمتى الصين أو شينا وأمريكا).
على أن ذلك كان قبل أن يفرض فيروس كورونا نفسه على الجميع ويعيد تربب القوى الدولية ليضع الدولة التى ستنتصر عليه فى المقدمة وتتيح له كتابة التاريخ بشكل أكبر.
وواضح أن الصين رغم أنها مصدر البلاء فإنها نجحت فى السيطرة عليه بل عرضت نقل خبرتها إلى الولايات المتحدة التى استسلمت لذلك بعد أن عجزت عن حصار الفيروس وأجبرت على نزول الجيش والحرس الوطنى وفرضت على القطاع الخاص تنفيذ أوامرها واضطرت إلى ارتكاب الخطيئة الرأسمالية التى لا تغتفر: تدخل الحكومة فى كل شىء٠
ولكن صعود الصين إلى عرش القوة العظمى لن ينقذ الدول النامية من تداعيات ما بعد الأزمة.
ما لم تفكر من الآن فى حلول مبتكرة لن تمسك بكين بيدها وهى تسقط فى جحيم الدول الفاشلة.