د. رشا سمير تكتب: أوبئة بريشة المبدعين

مقالات الرأي



ذاك إذن هو قدر المبدعون.. هكذا يرون الصورة على طريقتهم وينسجون من المواقف خيالا لا يليق إلا بهم.. يرتحلون بين ثنايا الأحداث فيصنعون من البهجة صفحات ومن الأسى روايات..

هكذا كتب المبدعون واصفين، شارحين، متنبئين، وناقلين الصورة من عصر إلى عصر..

هكذا أصبحت أقلام الأدباء عبر العصور كاميرا تلتقط الصور لتصنع منها أدبا يروى التاريخ.

طالما هاجمت الأوبئة البلدان.. فمن الكواليرا والطاعون والسل إلى أنفلونزا الخنازير والإيبولا ومؤخرا الكورونا، تعج صفحات التاريخ بصور سوداء لمراحل قاتمة فى حياة الشعوب، أوبئة هاجمت البشر فمات من مات وعاش من عاش وبقيت الذكرى علامة فى كُتب التاريخ..

دعونا نتذكر كيف أنه فى رحلة إلى الماضى فى غياهب القرن الرابع عشر نقل لنا الشاعر بترارك صورة فى كلمات صادقة عن وباء الطاعون فى أوروبا قائلا: «إن الأجيال المقبلة لن تصدق أن ما حدث كان من الممكن أن يحدث فعلاً».

فى هذا العصر السحيق أفنى الطاعون آنذاك ثلثى سكان أوروبا، وصفحات التاريخ لازالت تمتلئ بمشاهد مأساوية عن هذه الفترة الأليمة التى كتبتها آلام البشر ووجعهم فى الفراق..

الأمثلة كثيرة وعلى الرغم من كل الحكايات التى روتها الكُتب، فمازال فى جعبتها الكثير.. .

تُرى ماذا كتبوا؟ وتُرى من سيكتب غدا عن تلك الفترة العصيبة التى يعيشها العالم اليوم فى ظل كورونا؟

1- حرافيش نجيب محفوظ

فى ملحمة الحرافيش يكتب المبدع نجيب محفوظ عن عاشور الناجى (فتوة الحارة) فى افتتاحية لا تختلف كثيرا عما نمر به هذه الأيام فى معركتنا مع وباء كورونا.. تبدأ الرواية بمشهد إخلاء نتج عن اجتياح الطاعون لأحد الأحياء المجهولة الاسم والموقع فى القاهرة القديمة.. وكأن التاريخ يُكتب بنفس القلم، كتب يقول:

(تفاقم الأمر واستفحل، دبت فى ممر القرافة حياة جديدة.. يسير فيه النعش وراء النعش.. يكتظ بالمشيعين، وأحيانا تتتابع النعوش كالطابور، فى كل بيت نواح، بين ساعة وأخرى يعلن عن ميت جديد.. لا يفرق هذا الموت الكاسح بين غنى وفقير، قوى وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل.. إنه يطارد الخلق بهراوة الفناء.. وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار ولهجت أصوات معولة بالأوراد والأدعية والاستغاثة بأولياء الله الصالحين).

(ووقف شيخ الحارة عم حميدو أمام دكانه وضرب الطبلة براحته فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت. وبوجه مكفهر راح يقول :

إنها الشوطة (الوباء)، لا يدرى أحد من أين؟ تحصد الأرواح إلا من كتب له الله السلامة.

وسيطر الصمت والخوف فتريث قليلا، ثم مضى يقول:

- اسمعوا كلمة الحكومة!

أنصت الجميع باهتمام، أفى وسع الحكومة دفع البلاء؟

- تجنبوا الزحام!

فترامقوا فى ذهول، حياتهم تجرى فى الحارة، والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفى الخرابات، فكيف يتجنبون الزحام؟ ولكنه قال موضحًا :

تجنبوا القهوة (المقهى) والبوظة (الخمارة)، والغُرَز (جلسات تعاطى الحشيش).. الفرار من الموت إلى الموت! لشدّ ما تتجهمنا الحياة!).

هكذا وصف أديبنا العظيم نجيب محفوظ لحظات تشبه ما يعانى منه العالم اليوم، نفس المخاطر ونفس طُرق الوقاية بل نفس رائحة الموت، وكأن الزمان يعيد نفسه والتاريخ يُكتب بنفس القلم.

2- طاعون ألبير كامو

الكاتب الفرنسى المولود فى الجزائر ألبير كامو كتب رواية حملت عنوان «الطاعون» ولاقت نجاحاً فرنسياً وعالمياً كبيرا منذ صدورها عام1947.

الرواية تدور أحداثها فى مدينة وهران التى تتعرض لوباء الطاعون الكارثى، ويبرز لنا الكاتب من خلال صفحات الرواية أيضا ردود أفعال الشخوص على ذلك.

وهران هى ثانى أكبر مدينة بالجزائر وهى مدينة ساحلية تستلقى على شاطئ البحر المتوسط بين جبلين الأسود فى الشرق ومرجاجو فى الغرب حيث توجد القلعة الإسبانية «سانتا كروز» المعروفة بجمالها.

تبدأ الرواية بعد تفشى الوباء فى المدينة، حيث يتم إعلان الحجر الصحى على المدينة بأسرها وهو ما يعنى العزلة المطلقة عن العالم، وهنا تتحول وهران إلى رمز لعزلة الكون ووحدته وكل من فيها يمثلون أنماط الفكر المختلفة.. إلا أن الشخصية المحورية فى الرواية هى الطبيب ريو وهو أكثر الشخوص اتصالاً بالمرض من خلال احتكاكه بالبشر وتداعيات المرض.

يقول الطبيب ريو: «ما لم ندركه نتيجة استغراقنا الدائم فى ذواتنا، أن الطاعون والحروب تحصد الناس على حين غرة»

تنتهى الرواية بزوال وباء الطاعون بعد هلاك المدينة ووفاة أعداد مهولة من البشر، يفرح الجميع بزوال تلك النكبة ما عدا الدكتور بيرنارد الذى يرى بأن الطاعون مرض خبيث يختبأ فى الملابس و فى أوراق الأشجار و سيعود فى يوم من الأيام!.

3- إيطاليا متحف الألوان والنغمات

من مفارقات القدر أن إيطاليا التى تعيش اليوم أسوأ لقاء مع الموت من خلال مرض الكورونا، عاشت لحظات أكثر قسوة بسبب وباء الطاعون أو الموت الأسود فى نهايات القرن الرابع عشر حين كانت على موعد مع نقلة حضارية غيرت من تاريخها، بل من تاريخ أوروبا كلها، تعود تلك اللحظة التاريخية إلى عام 1374 حين رست سفينة عائدة من البحر الأسود فى ميناء مسينا فى جزيرة صقيلية، حاملة معها وباء الطاعون الأسود، حيث لم تكن تستغرق وفاة الشخص المصاب به أكثر من أربعة وعشرين ساعة من ظهور دمل صغير فى أحد مواضع جسده، فكانت سرعة انتشار المرض، وقدرته الفتاكة، هى المقصلة الحقيقية للأرواح.. والتى أودت خلال عشرين عاما بأكثر من نصف سكان أوروبا.

الشىء الغريب أن الإبداع لم يترك تلك المرحلة إلا ورصدها، فقد ترك الموت الأسود أثره على لوحات فنانى ذلك العصر الذين رسموا العديد من اللوحات المهمة التى تحمل لون الموت ورائحته فى كل الرتوش، على سبيل المثال هياكل بشرية تمضى متعثرة الخطوات وعلى وجهها ملامح العذاب والمعاناة وهى تجر الموتى إلى قبورهم.

مع ختام القرن الرابع عشر ساد جو من السعادة بنهاية ذاك الوباء، خاصة أن الأحياء الناجين قد تحولوا إلى أثرياء بفضل ما ورثوه من أقاربهم من أملاك وأموال، وراحوا ينفقون بشكل جنونى على ملذاتهم، فى محاولة لمحو الصور البشعة التى خلفتها ذكرى الطاعون.

فى بداية عشرينيات القرن السابع عشر ضربت موجة شرسة من الطاعون شعب باليرمو فى صقلية، وكان هذا التفشى الكارثى هو ما ألهم مثلا الرسام الفلمنكى فان دايك لإقامة معرض بعنوان «الرسم والطاعون» بين عامى 1624 – 1625، إذ انتقل دايك إلى باليرمو فى تلك الفترة، ليجد نفسه محاطًا بالذعر والموت، ليرسم وقتها مجموعة من اللوحات البديعة المتأثرة بالموتِ الأسود.

كان الجميع آنذاك يعتقد أن نهاية الحياة قد اقتربت، ولم تعد للممتلكات الشخصية أية قيمة، فأصبحت مقتنيات المنازل ملكية مشتركة، وانغمس الكثيرون فى ملذات الحياة، أما البعض الآخر فقد عزل نفسه عن الجميع خوفًا من المرض، من بين هؤلاء الناجين أيضا الموسيقار جيلوم دى ماتشوت، الذى استكشف أشكالا موسيقية جديدة أصبحت بحلول عام 1365 أحد أكثر أشكال الأغانى شعبية.

4- السائرون نياما لسعد مكاوى

كما مثلت رواية سعد مكاوى السائرون نياما نموذجا للمعالجة الاجتماعية التاريخية التى تستدعى العصر المملوكى وتغوص فى خبايا صراعاته لتلقى الضوء على الحاضر، تمتد أحداث الرواية نحو ثلاثين عاما، قسمها المؤلف إلى ثلاثة أجزاء هى الطاووس والطاعون والطاحون، وجاءت نهاية الرواية لتفعيلها ذات دلالة رمزية فى إشارة إلى حتمية ثورة الفلاحين على سلطة الملتزم المملوكى بعدما استعرض مكاوى ما شهدته مصر آنذاك من انتشار للأوبئة والقحط.

جاءت تسمية الكاتب للأجزاء الثلاثة بشكل يتسق مع طبيعة النص، بل يُعطى كل جزء اسما خاصا به مثل (الطاووس – الطاعون – الطاحون) وهى معادلة منطقية جداً،

فإذا انتشر الظلم والسلب والنهب، فتمتعت فئة صغيرة وعاشت متخمة برفاهيتها فهى كا (الطاووس)، وإذا استشرى الفقر وعاشت فيه الغالبية العظمى البائسة واكتوت بنيرانه فهى كا (الطاعون)، وإذا استمرت هذه الأوضاع لمدة ثلاثين عاما، فلابد أن تتقلب وتتغير الأحوال، وحين يفيض الكيل بالمطحونين ينطلقون من (الطاحون) إلى الثورة.

من أجمل مقاطع الرواية ما جاء فى بداية الجزء الثالث على لسان الشاب يوسف النجار فى كلمات تحوى الكثير من المعانى، حيث يقول: «زمن يروح وزمن يجيء.. وسبحان من له الدوام، ما أبعد ذلك الزمن!.. ناس غير الناس ودنيا غير الدنيا.. كأنهما ثلاثمائة سنة لا ثلاثون.. كما أنها أمم تزول والهم ما يزول»

كما تقول مُحسنة إحدى بطلات الرواية مُترحمة على كل الأحبة الذين خطفهم الزمان:

«إنه الطاعون الذى نظن أنه انتهى، مات وشبع موتا، لكننا نكتشف أن الطاعون لا يموت، إنه يختفى حقًا، ويلبد فى خبث، إلى أن تحين له فرصته، فإذا الفئران راقصة، وإذا الوباء فى الناس».

هكذا كتب ورسم وتغنى المبدعون بالأوبئة على مر الزمان.. وهكذا نبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن تنتهى هذه الفترة العصيبة فلا يبقى منها سوى بعض الحكايا والصور ونغمات على أوتار الكمان.