د. نصار عبدالله يكتب: 9 مارس

مقالات الرأي



رغم انقضاء ما يربو على نصف قرن على يوم 9 مارس 1969،.. رغم انقضاء ما يربو على نصف قرن فما زلت أذكره كأنه كان بالأمس!!، فى ذلك اليوم كنت ما أزال أقيم داخل دشمة شيدتها بنفسى بمعاونة رفيقى فى السكن (أعنى بالسكن: الدشمة!!) رفيقى شرقاوى طيب القلب اسمه: أحمد مصيلحى، ولهذا السبب فقد أطلق عليها أحد الرفاق ممن يتسمون بخفة الظل: «دشمة أبناء الشرقية والصعيد»، الدشمة لمن لا يعرف من القراء هى حفرة فى الأرض تتسع لشخصين (وأحيانا لأكثر)، تعلوها قبة من القضبان المعدنية، وفوق القبة المعدنية توضع شكائر من الرمل تحميها من قذائف المدفعية الإسرائيلية، وقد تعلمنا من خبرة الاشتباكات الماضية أن الشكائر توفر حماية كاملة للمقيمين فى الدشمة حتى لو سقطت فوقها قذيفة مباشرة، لكن المشكلة الحقيقية تكمن إذا سقطت قذيفة أمام المدخل، ففى هذه الحالة يندفع الهواء بقوة هائلة إلى المسالك التنفسية ويؤدى إلى تمزق الرئتين، فتحدث الوفاة نتيجة للنزيف الداخلى، دون أن تكون فى الجسد من الخارج أية إصابة على الإطلاق!!..وهذا بالضبط هو ما حدث مع الفريق عبدالمنعم رياض!!.. فى ذلك اليوم الحزين كنت فى دشمتى داخل إحدى حدائق المانجو فى قرية سرابيوم عندما ورد إلينا خبر يقول إن رئيس الأركان يقوم الآن بجولة تفقدية على الجبهة، وأنه الآن فى نقطة المعدية نمرة 6 التى تبعد عن موقعنا نحو ثلاثة كيلومترات، وعلى هذا فإنه من المتوقع أن يكون فى موقعنا بعد دقائق وعلينا أن نتأهب لاستقباله، وهكذا دب فينا الحماس، فقد كان الفريق رياض يحظى بقدر كبير من الحب والتقدير من جانب جميع أفراد القوات المسلحة، خاصة بين المجندين من حملة المؤهلات العليا الذين كانوا يعتبرونه من الناحية الأكاديمية منتميا إليهم، بل متفوقا عليهم، فقد درس الرياضيات بكلية العلوم، وقبل ذلك كان قد أمضى عامين كاملين فى كلية الطب قبل أن يلتحق بالكلية الحربية، ثم انتسب وهو فى رتبة الفريق إلى كلية التجارة لكى يدرس الاقتصاد من موقع وعيه للصلة الوثيقة التى تربط بين العلوم الاقتصادية والعلوم العسكرية!.. وهكذا رحنا نترقب وصول الرجل الأسطورة الذى كنا ما نزال نذكر أن الملك حسين قد جاء بنفسه إلى القاهرة فى عام 1967 وطلب من الرئيس عبدالناصر أن يقوم بتعيين عبدالمنعم رياض قائدا للجبهة الأردنية، واستجاب عبدالناصر لطلب الملك حسين، وكانت النتيجة أن القيادة الإسرائيلية نفسها فى ذلك الوقت اعترفت بأن المواقع التى تمركزت فيها المدفعية الأردنية بموجب توجيهات مباشرة من الفريق رياض (اعتمد فيها على دراسته للرياضيإت لتحديد أفضل محاور ممكنة للإحداثيات) قد تمكنت من إلحاق خسائر جسيمة بالمواقع الإسرائيلية!!.. قبل أن نلجأ إلى الدشم فى صباح يوم 9 مارس 1969 كنا نتجول خارجها وهو ما كنا نفعله فى الفترات التى يتوقف فيها القصف، ذلك أننا كنا ننتمى إلى وحدة كيماوية مهمتها هى تطهير الأفراد والمعدات إذا ما حدث وقام العدو بهجمة كيماوية، وفى غير تلك الحالة كنا نزاول حياتنا العادية تماما، إذ نتجول فى الحديقة وكأننا جئنا إليها للفسحة وليس للقتال! كنا مازلنا ننتظر حين انهمر القصف الإسرائيلى فجأة فهرعنا جميعا إلى داخل دشمنا تاركين لوحدات المدفعية المصرية القريبة من مواقعنا أن ترد على القصف.. حين هدأ القصف قليلا جاء إلينا من يقول لنا: البقية فى حياتكم.. الفريق رياض استشهد.. ووقع الخبر علينا وقع الصاعقة، وانخرط بعضنا فى بكاء شديد وكأنه أول شهيد يأتينا خبر استشهاده.. الحقيقة أنه كان بالفعل أول شهيد من نوعه، فلم يسبق من قبل أن استشهد فى حرب الاستنزاف التى كان لى ولرفاقى شرف المشاركة فيها، لم يسبق أن استشهد قائد بمثل هذه الرتبة فى ميدان القتال، ومما ضاعف من وطأة الأمر علينا أنها كانت المرة الأولى التى ستتاح لنا فيها (بعد قليل) رؤية هذا القائد الفذ وجها لوجه (وربما مصافحته أيضا) فقد قيل لنا إنه كان يصافح الجنود بود بالغ ولا يكتفى مثل آخرين بأن يجعلهم يصطفون أمامه لكى يلقى على مسامعهم كلمة من العبارات الإنشائية المكررة التى سئمنا سماعها مرارًا وتكرارًا والتى كثيرًا ما كانت تؤدى إلى زيادة الفجوة بيننا وبينهم، أى إلى العكس تماما مما يفترض أنهم يتوخونه منها.