منال لاشين تكتب: ملاحظات على جنازة "عليه ما عليه"

مقالات الرأي



بين الدين والدنيا

للمصريين موهبة خاصة جدا فى التدين الانتقائى بما يحقق مصالحهم ويخدم أهدافهم، وفى هذه الموهبة يتساوى الفنانون والسياسيون والحكومة والأهالى والمعارضون والمؤيدون، محلات العصير مكتوب عليها بخط جميل (وجعلنا من الماء كل شىء حى) بائعو الزيتون أسود أو أخضر مخلل أو زيت، يستقبلونك بالآية الكريمة (والتين والزيتون وطور سينين) أو تاجر يعلق على محل الفاكهة الآية (وفاكهة وأعناب) ليس شرطا أن يعاملك البائع بصدق أو يتذكر الحديث الشريف (من غشنا فليس منا) أو الآية الكريمة (ولا تخسروا الميزان)، وهكذا، ولذلك كان بديها بعد أن ذهب الرئيس الراحل السادات إلى القدس أن تصبح الآية الرسمية هى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) كنا نسمعها بعد الأذان وفى فواصل يوم الجمعة ونقرأها على الغلاف الخلفى للكتب المدرسية، ولكل ما سبق لم أندهش من اللجوء الانتقائى للدين عقب إعلان وفاة الرئيس الراحل مبارك، دعك من حكاية له ما له وعليه ما عليه التى تحولت إلى نكتة بايخة لا تضحك بقدر ما تكشف عن تخبط دستورى وتاريخى وقانونى، فالبعض يحدثك عن الرحمة وأن الله أرحم الراحمين، ولكنه يتناسى أن الله أعدل العادلين وأنه قد يصفح للعبد إذا لم يطعه فى أمر من أمور الدين، ولكنه لا يصفح عن ظلم عباده، يرددون أن الرسول صلى الله عليه وسلم حزن لأن جاره اليهودى مات، ولكنهم لا يتذكرون الحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وبالطبع لم ولن يذكرنا أحد بأن سيدنا عمر الفاروق قال لو أن دابة فى العراق تعثرت قدمها ليحاسبنى الله عليها، فما بالكم بـ80 مليون مواطن وليس حيوانًا، وكلهم من ساكنى مصر مواطنون لهم حقوق فى رقبة الحاكم.

وعلى الرغم من الاستخدام المكثف للدين فى تبرير الرحمة والمغفرة لمبارك، فقد وقع البعض فى خطأ دينى فادح، فقد اعتبروا أن المطر علامة على أن السماء تبكى مبارك، بينما المطر فى الإسلام علامة خير وسرور وليس حزن.

وهذه مجرد ملاحظات فقط لأننى ضد خلط الدين بالسياسة ففيه إفساد لكليهما، ولذلك يجب فك الاشتباك بينهما، فنترك مبارك الإنسان لربه يحاسبه كما يشاء رب السموات، أما مبارك الرئيس الذى تنحى فى أهم وأرقى ثورة شعبية فهذا شأن سياسى دنيوى بحت.

1- ثورة منسية

من حق كل مواطن أن يختار مشاعره تجاه مبارك الرئيس، ولكن ليس من حق أى مواطن مصرى أن ينكر ما جاء فى الدستور من أن 25 ثورة شعبية قامت ضد الفساد والظلم، ولا يقلل من هذه الثورة أن الإخوان حاولوا التهام مصر بعد الثورة، فالثورات تصحح نفسها أحيانا، وهذا ما حدث بثورة 30 يونيو، ولذلك لا يمكن اختصار الثورة والدستور فى كلمة (عليه ما عليه)، كما أن تجاهل آلام وأوجاع المصريين استهانة غير مقبولة بالشعب المصرى، وبالمثل جرت محاولة للالتفاف حول بيانى الرئاسة والقوات المسلحة وكلاهما يتحدثان عن مبارك القيادة العسكرية وليس رئيس الجمهورية الذى استمر 30 عاما ولم يرحل دون ثورة.

فالحكم على فترة الرئيس مبارك قد تم وصدر فيه حكم نهائى شعبيًا ودستوريًا لا يمكن الرجوع عنه سواء فى لحظة عطف أو محاولة تسلل لقيادات من عصر مبارك، وهذا ما حدث بالضبط، تجرأت شخصيات لم تخرج من السجن إلا عندما دفعت ملايين الجنيهات أو ردت أراضى وشققا من المال الحرام على الإدلاء بتصريحات إعلامية، وحاولوا القفز على خطايا عصر مبارك، واحد بيقول إن مبارك لم يطلب منه يوما مخالفة القانون، وآخر يستفزنا بالقول إن مبارك سيرد له اعتباره، ويبدو أن البعض فى حماسة التسلل نسى أن الرئيس مبارك فقد اعتباره بحكم محكمة فى قضية القصور الرئاسية.

ولمن لا يعرف القضية، فهذه القضية تكشف أن الرئيس السابق مبارك قد قام بالإنفاق على شقق ولديه ومكاتبهما الخاصة من أموال عامة مخصصة لترميم القصور الرئاسية، على بلاطة من أموال الشعب.

2- تناقضات

على أن الحدث أو بالأحرى تغطيته لم تخل من تناقض فج فى الخطاب الإعلامى الموجه، فكل الإعلاميين الذين صدعونا بأننا نعانى وندفع ثمنًا فادحًا بسبب تراكم الفساد وعدم الإنجاز فى عصر مبارك، هؤلاء الإعلاميون أنفسهم يريدون تسويق أن عصر مبارك لم يكن فاسدا أو عاجزا عن الإنجاز.

ثمة تناقض آخر وإن كان أقل حدة، فقد ركز بعض الإعلاميين والسياسيين أن مبارك رفض مغادرة مصر بعد الثورة، وقال: على أرضها سأموت، فلماذا فضل مبارك أن يبقى فى مصر، ثم يضع ثروته خارجها، فحتى الآن لا تزال قضية أموال مبارك المجمدة فى بنوك سويسرا متداولة أمام المحكمة الأوروبية، فمن الأسئلة المسكوت عنها من حقن دماء المصريين، وإذا كان مبارك قد تنحى خوفا على دمائنا فلماذا لم يعلن ذلك بنفسه، أعتقد أن هذه الأسئلة ستجد إجاباتها فيما بعد من شهود لايزالون على قيد الحياة، وحينما ينطق الصامتون سنعرف من حمى دماء المصريين ومن لا يملك نقطة دم فى عروقه؟!.