عادل حمودة يكتب: جمهورية التسامح فى مصر

مقالات الرأي



على خلاف ما يشاع من اتهامات وخرافات ونكات نال اليهود من تسامح مصر ما لم ينله غيرهم

لم يستوعبوا رحابة البلاد التى فتحت ديارها للغرباء من جنسيات الأرض المختلفة.. أصروا على البقاء فى الجيتو

وجدت إسرائيل أن من مصلحتها تنشيط الصراع وزيادة التوتر ورفض مشروعات السلام الأمريكية التى بدت مصر مستعدة للتفاوض بشأنها

تعمدت المخابرات الإسرائيلية كشف عملية سوزانا لتفجير حالة من الكراهية ضد اليهود فى مصر


فى لحظات الصلاة يشف الإنسان حتى يصبح شعاعا خاشعا راضيا متسامحا يعرف طريقه إلى السماء.

ساعتها تمطر السماء خيرا.

لتكن الصلاة فى مسجد أو كنيسة أو معبد فالإيمان الخالص لوجه الله لا يعرف التمييز أو التكفير أو التدمير.

هكذا علمت مصر الدنيا منذ بزغ فى صدرها فجر الضمير قبل أن تغادر البشرية عصورها الأولية (الحجرية) بمئات السنين.

حقيقة راسخة يشهد بها العالم فلم تعجب من قيامها بترميم معبد إلياهو هانبى فى الإسكندرية وكأنه رسالة غير عادية عن يوم غير عادى؟.

كان فى مصر خمسين معبدا لليهود بجانب مستشفيات ومعاهد ومدارس وجمعيات وصحف ونوادٍ وشركات سيطرت على شرايين الحياة الاقتصادية وانضم أصحابها إلى الارستقراطية المصرية.

إن مصر لم تبخل بتسامحها على أحد مهما كان جنسه أو مذهبه أو مقصده.. ونيلها لم يكن يوما متعصبا ضد أحد.. وشعبها لم يغلق الباب فى وجه أحد.

وعلى خلاف ما يشاع من اتهامات وخرافات ونكات نال اليهود من تسامح مصر ما لم ينله غيرهم لكنهم استكثروا النعمة على أنفسهم فكان ما كان.

لقد ولدت اليهودية فى مصر.. وكلم الله موسى على أرضها فى طور سيناء.. وتلقى هناك الوصايا العشر.

والمؤكد أن اليهود لم يطردوا من مصر وإنما خرجوا منها بأمر الرب مجبرين.. وعندما عصوه كتب عليهم التيه.. ساحوا فى الأرض.. أصبحوا شعب الله المحتار.. طاردتهم لعنة الاضطهاد فى كل مكان لجأوا إليه.. تجمدوا من البرد فى سيبريا.. تدلوا من المشانق فى إسبانيا.. حرقتهم أفران الغاز فى ألمانيا.. وأخفوا ديانتهم وغيروا أسماءهم فى الدول التى قبلت بهم.. إلا مصر.. منذ دعا يوسف إخوته كتبت على بواباتها: ادخلوها بسلام آمنين.

فتحت مصر أحياءها وأسواقها وبنوكها واستديوهاتها وملاعبها ومطاعمها ومطابعها وصحافتها وأحزابها وحكوماتها لليهود دون التوقف عند ديانتهم منفذة شعارها الخالد: الدين لله والوطن للجميع.

طربت مصر بصوت ليلى مراد (ليليان موردخاى) وجنت بجاذبية كاميليا (ليليان فيكتور ليفى كوهين) وصفقت لتمثيل نجمة إبراهيم (بولينى أوديون) وراقية إبراهيم (راشيل إبراهام ليفى) ونجوى سالم (نظيرة موسى شحاتة) واشترت ملابسها من متاجر ريفولى وهانو وبنزيون وعمر أفندى وعدس وسهرت الليالى فى مسرح يعقوب صنوع وشاهدت أفلام سينما توجو مزراحى ونزلت فى فنادق بنتها عائلة نسيم موصيرى (مينا هاوس وسان ستفانو) وقرأت بالعبرية والعربية صحيفتها (إسرائيل) وسكنت فى حى (جوزيف) سموحة التى احتكرت عائلته مضارب الأرز وتكرير السكر والغزل والنسيج ووضعت أموالها فى بنوك (الأهلى والعقارى ومصر) ساهمت فى تأسيسها عائلة سوارس ورلو ووضعت قضايا عمالها أمانة فى مكتب المحامى شحاتة هارون.

بل أكثر من ذلك انتظرت النخبة السياسية والقانونية عودة موسى قطاوى من باريس لتبدأ اجتماعات لجنة الثلاثين التى كلفت بوضع دستور 1923 الذى كان عضوا فيها بصفته رئيسا للطائفة اليهودية الشرقية (سفارديم).

وحصل الرجل على لقب باشا ليس بسبب صداقته للملك فؤاد وليس بسبب اختيار زوجته أليس سوارس الوصيفة الأولى للملكة نازلى وإنما لأنه كان عضوا فى الوفد المصرى الساعى إلى التفاوض مع الإنجليز فى عام 1922 ولأنه كان عضوا فى الجمعية التشريعية ولأنه شيد خطوطا للسكك الحديدية فى شرق الدلتا وأسوان وساهم فى تأسيس بنك مصر مع طلعت حرب.

ولبراعته فى تنمية الاستثمارات عينه الملك فؤاد وزيرًا للمالية مثل جده يعقوب إليشع حيدر قطاوى الذى اختاره الخديو سعيد ناظرا للخزانة.

ورأس عميد الأدب العربى تحرير مجلة الكاتب التى مولت بأموال يهودية وأشرف على رسائل أكاديمية لباحثين يهود ومنحهم الدكتوراه وشارك فى وضع حجر أساس الجامعة العبرية فى القدس عام 1925.

وبموهبة هنرى كورييل فى التنظيم والتجنيد تأسست الحركة الوطنية من أجل التغيير (حدتو) أكبر التنظيمات الشيوعية التى عرفتها مصر.

وحتى سنوات حكم محمد نجيب كان الحاخام الأكبر لليهود يجلس فى الصف الأول بجانب شيخ الأزهر وبطريرك الأقباط ورئيس الجمهورية.

من السينما إلى السياسة.. ومن المالية إلى الشيوعية.. ومن الثقافة إلى الصاغة.. ومن الصرافة إلى الصحافة.. ومن الرياضة إلى الوزارة.. لا مجال واحدًا فى مصر لم ينجح فيه اليهود.. فما الذى حدث؟.. لم انقلبت الآية؟.. من السبب؟.

جاء اليهود إلى مصر وهم محملون بعقدة الخوف التى جعلتهم ينغلقون على أنفسهم ولا يطمئنون إلا إلى عشيرتهم.. لم يستوعبوا رحابة البلاد التى فتحت ديارها للغرباء من جنسيات الأرض المختلفة.. أصروا على البقاء فى الجيتو.. أو الحارة.. وبدا مستحيلا أن يخرجوا منه.. إلا قليلا.

وما أن تولى رينيه قطاوى رئاسة طائفة السفارديم بعد وفاة والده حتى دعا بحماس إلى اندماج اليهود فى المجتمع المصرى ولكنه كان كمن يصرخ فى البرية.

بل إن بعضهم رد التسامح بتعصب وحرق الزهور ليزرع الأشواك ويطلق النار ويفجر القنابل.

فى الساعة الواحدة والربع من بعد ظهر يوم 6 نوفمبر عام 1944 أطلق شابان يهوديان هما إلياهو حكيم وإلياهور بن تسورى ثلاث رصاصات على اللورد موين المسئول البريطانى عن توفير مطالب الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية وهو عائد إلى بيته فى الزمالك.

لم يصمد الرجل البالغ من العمر 68 عاما وتوفى بعد ساعات فى مستشفى دون أن يعرف بخبر القبض على شبكة الجناة والحكم على أفرادها بالسجن والإعدام لكن ما حدث أثار خيال شباب اليهود.. انضم بعضهم إلى منظمات سرية تحرض على الهجرة إلى فلسطين.. أشدها عنفا منظمة شتيرن التى نفذت الجريمة بأمر من إسحاق شامير الذى سيصبح رئيسا لحكومة إسرائيل فيما بعد.

وحسب ما ذكر ناحوم جولدمان الرئيس الأسبق للمؤتمر الصهيونى فى كتابه: التناقض اليهودى فإن ديفيد بن جورن أول رئيس حكومة إسرائيلية لم يكن يعرف شيئا عن جمال عبد الناصر والضباط الأحرار حتى صدر كتاب فلسفة الثورة.

سأله بن جوريون: هل قرأت الكتاب؟.

أجاب جولد مان: نعم إنه مجرد نبذات سياسية ليست لها أهمية أعمال أدبية مثل فاوست و دون كيشوت.

قال بن جوريون: على العكس إنه عمل مهم يبرهن على أن تقديرى لناصر على حق وتقديرك أنت خطأ.. إنه يقول فى كتابه إن عليه توحيد العرب لينتصر على إسرائيل.. كما أنه يدعو إلى توحيد المسلمين فى العالم.. هذا كلام خطير.. وهو فى هذا الصدد يتحدث عن ذل الهزيمة فى حرب 1948.. أنا أعتقد أنه يشعر بأنه مهان.. ولن يعقد صلحا أو سلاما معنا طالما لم يشف من صدمته.

ـــ لكنه يتحدث عن تنمية بلاده.

ـــ هنا بالضبط مكمن الخطورة فى ناصر ويجب أن نعى ذلك جيدا.

وهكذا وجدت إسرائيل أن من مصلحتها تنشيط الصراع وزيادة التوتر ورفض مشروعات السلام الأمريكية التى بدت مصر مستعدة للتفاوض بشأنها حسب الوثائق التى نشرها هيكل فيما بعد.

أرسلت إسرائيل إلى القاهرة سرا مجموعة من ضباط مخابراتها لتجنيد وتدريب شباب من اليهود على أعمال التخريب عرفت فى تاريخ الموساد بـ«عملية لافون» نسبة إلى وزير الدفاع بنحاس لافون الذى كان آخر من يعلم.

فى صيف 1954 وضعت الشبكة مواد حارقة فى المنشآت البريطانية والأمريكية لتنسب الجرائم للحركة الوطنية وتفشل مفاوضات الجلاء ولكنها فى الحقيقة أدت إلى نسف مقترحات السلام التى عرضها رئيس الحكومة الإسرائيلية موشى شاريت على مصر.

دبر المؤامرة التى عرفت أيضا بـ«عملية سوزانا» بن جوريون الذى انسحب إلى كيبوتز فى منطقة سدى بوكر حتى ينفى الشبهات عنه بمساعدة موشى ديان شيمون بيريز.

وعلى عكس ما استقر فى يقين الباحثين والمؤرخين تعمدت المخابرات الإسرائيلية كشف العملية ليقبض على أفراد الشبكة بعد هروب قيادتها إلى الخارج لتفجير حالة من الكراهية ضد اليهود فى مصر تجعلهم يتركونها ويهاجرون.. الأثرياء إلى فرنسا والفقراء إلى إسرائيل.

وبالفعل هاجرت أعداد كبيرة من اليهود بعد محاكمة الجناة تضاعفت بعد أن بدأت إسرائيل فى مؤامرة العدوان الثلاثى عام 1956 باحتلال سيناء لإلهاء مصر عن غزو بريطانى فرنسى لإسقاط النظام.

لكن مؤامرة تهجير اليهود بالعنف فى مصر سبق أن نجحت فى العراق.

فى فصل بعنوان استخدامات خاصة للعنف من كتاب البندقية وغصن الزيتون يكشف الصحفى البريطانى ديفيد هيرست أسرار التفجيرات التى وقعت فى بغداد يوم احتفال اليهود بما يسمونه أنشودة البحر آخر أيام عيد الفصح فى أول إبريل عام 1950.

كان نحو 50 ألف يهودى فى الحدائق وعلى المقاهى عندما انفجرت أكثر من قنبلة ورغم ضعف عدد الضحايا إلا أن 10 آلاف يهودى تنازلوا عن الجنسية العراقية ليسمح لهم بالهجرة إلى إسرائيل.

وتكررت التفجيرات وتزايدت طلبات الهجرة ونقل اليهود من بغداد إلى تل أبيب عبر نيقوسيا فى أربع رحلات يوميا.

مع القنبلة الرابعة فضحت المؤامرة: إن التفجيرات من تدبير منظمة سرية تسمى الحركة أشرف عليها ماكس بينت الذى سيكرر السيناريو فى مصر فيما بعد.

كان هدف تلك المنظمة استخدام المفرقعات بهدف إثارة الذعر بين اليهود ليسارعوا بالهجرة إلى إسرائيل خاصة أنهم لم يعانوا من الاضطهاد فى البلاد العربية.. بل.. ربما العكس.. ففى منتصف أربعينيات القرن الماضى وزع اليهود المنتمون للحركة الصهيونية كتيبا بعنوان: لا تشتروا من المسلمين حسب هيرست أيضا.

وفى إسرائيل اكتشف اليهود العرب (السفارديم) أن الاضطهاد الذى عانوا منه فى أوروبا تكرر بفعل يهود الغرب (الاشكنازيم).

ولم يجد اليهود العرب أمامهم سوى ترديد أغنية حزينة: ماذا فعلت بنا يا بن جوريون.. هربتنا جميعا.. بسبب الماضى تخلينا عن جنسيتنا.. جئنا إلى إسرائيل.. ليتنا جئنا راكبين حمارا.. ولم نصل إلى هنا أبدا.. يا لها من ساعة مشئومة.. لتذهب إلى الجحيم.. لتذهب إلى الجحيم بالطائرات التى حملتنا إلى هنا.

نحن من زرعنا شجرة التسامح حتى أصبحت غابة ولكن ما يثير الدهشة أن من يقطفون الثمار لم يترددوا فى قطع الأشجار.