بطرس دانيال يكتب: من الضيقِ أشكرُ

مقالات الرأي



يصرخ داود النبى إلى الله قائلاً: «إلى متى يارب، إلى الدّهر تنسانى؟ إلى متى تحجبُ وجهَك عنى؟ إلى متى أُحَمّلُ نفسى الهُموم؟ وقلبى الحزنَ ليلاً ونهاراً؟» مما لاشك فيه أن حياة الإنسان مليئة بالشقاء والألم، فنجد مَنْ يتألمون سواء بسبب المرض، الفقر، فقدان عزيز عليهم، الحروب، الكوارث الطبيعية، الفشل فى التعليم والوظيفة، مشاكل أسرية وغير ذلك... لنتأمل هذه التجربة العظيمة التى تُعتبر من أفضل اختبارات الألم وهى لبطل كرة الطائرة الأمريكى كيرك كيلـﭼور الذى أصبح مشلولاً بسبب حادثة شنيعة وقعت له فى روما والتى لخّصَها هكذا: «طلبتُ من الله القوة لأقوم بمشاريعٍ عظيمة، فأعطانى الضعف لأتعلّم التواضع. طلبتُ من الله الصحة لأعمل أعمالاً عظيمة، فأعطانى الألم لأعرف معنى الصحة حقاً. طلبتُ منه الغنى لأمتلك كل شىء، فصيَّرنى فقيراً حتى لا أصير أنانياً. طلبتُ منه القوة حتى يمتدحنى الناس، فأعطانى الضعف لأشعر باحتياجى إليه. طلبتُ منه كل شىء حتى أتمتع بالحياة، فأعطانى الحياة حتى أتمتع بكل شىء. فقلت له: يا رب، لم أحصل على شىء مما طلبته منك، لكنك أعطيتنى كل ما هو ضرورى لى حتى ولو كان ضد إرادتى». ومنذ هذه اللحظة بدأت حياةً جديدة مليئة بالمعانى. فالألم سرٌ غامض، بالنسبة للبعض يُعتبر كارثة ويسبب لهم الهلع واليأس حتى يصل بهم الأمر لمعاتبة الله وفقدان الإيمان، أما للبعض الآخر هو ملاك يحملهم نحو سلام الله، لأنه تعالى يمنحنا الأشياءَ الضرورية والصحيحة حتى ولو طلبنا غيرها، ويفعل الله ذلك بطرق غير متوقعة لا يتخيّلها العقل البشرى. مّن منّا يتحلّى بالتفاؤل والأمل ويشكر الله على نِعَمِه وعطاياه التى لا تُحصَى مهما كانت الظروف المحيطة به؟! يقول الفيلسوف الفرنسى باسكال: «من الممكن أن يكون العقل أبطأ من القلب فى إدراك الحقائق». مما لا شك فيه أننا جميعاً نسعى للجانب المضىء فى الحياة متمنين أن نعيش دائماً فى مملكة الراحة عن طريق الحصول على جواز السفر المريح وليس روشتة الألم والشقاء، لكن المرض والضعف يلازماننا وفى تكويننا الداخلى ويُعَبّرا عن إمكانياتنا المحدودة والضعيفة وطبيعتنا الهشّة. من المستحيل أن نفصل بين ثنائيات الوجود: الصحة والمرض، السعادة والألم، الحياة والموت. هذا النسيج يُشَكّل هويتنا كبَشَر رجال ونساءً. وكما يقول أحد المفكّرين: «الألم هو الخيط الذى نُسِجَ منه قماش السعادة». لذلك علينا أن نتشجع ونقبل أن نعيش كلا المملكتين: مملكة الصحة ومملكة المرض. وعندما نشعر بليالى الألم، نحمد الله على عُمْرٍ بلا عذاب، وفى أوقات المرض، نشكر الله على سنوات الصحة. دموعنا القليلة لا تجعلنا ننسى ضحكاتنا الطويلة، كما لا يصح لنا أن نشكو من ساعات التعب والشقاء، متناسين سنوات العافية والهناء، فالله الذى أعطى، له كل الحق فى أن يأخذ. إذاً... الألم هو ينبوع تجديد الإنسان وتغييره وتطهيره، وإذا أصابتنا بعض المحن والصعوبات بين الحين والآخر، لأنها غالباً ما تُعيد الإنسان لذاته فيُدرِك أنه فى حياةٍ عابرة ولا يجعل رجاءَه فى أيٍّ من أمور الدنيا، وتحملنا على التواضع. علينا أن نُدرك يقيناً أنه مِنْ المُحال أن يكون فى هذه الدُنيا أمانٌ تامٌ وسلامٌ دائمٌ، لذا علينا أن نتحمّل مشقات الدُنيا بدون تذمّر. نحن لا نستطيع أن نهرب مِن المِحَن، ولكن لابدَّ أن نستعين بالله تعالى ليساعدنا، فتؤول إلى خيرنا الأعظم ونُردد دائماً: «لتكن مشيئتك يا الله». ولا ندعْ الشدائد تتغلّب علينا أبداً، لأن كل ما نتحمّله فى هذه الدنيا من مشقاتٍ وآلامٍ مُبرحَة لن يدوم. مما لا شك فيه أن معظم الحقائق تُعْرَف وتُفهَم فى الألم والشقاء والعناء والعذاب، فمن المستحيل أن نتخيّل أن الله سعيد بآلامنا وعذابنا، ولكن كل هذه الأشياء من أجل تقدّمنا ونموّنا، لأن الألم كالنارِ يُطهّر الحديد ويُنقّى الذهب، فالنَفْس تصل إلى كمالها تحت وطأة الشدائد كالندى الذى يُزهر الورود، والعين المملوءة بالدموع تَلمَع أكثر من غيرها. وكما يقول إيليا أبو ماضى:

«إن شر النفوس فى الأرض نَفْس... تتمنى قبل الرحيلِ الرحيلا، وترى الشوك فى الورد وتعمى... أن ترى فوقها الندى إكليلاً».

كلُّ واحدٍ منّا يمر بمراحل مختلفة سواء كانت سعيدة أو تعيسة، لكن المُهِم هو كيفية استغلال هذه اللحظات المريرة التى تغزو حياتنا ونتعامل معها من أجل خيرنا الأسمى، ونختم بكلمات عَالِم النفس الألمانى ألفريد إدلر: «إن من أروع مميزات الإنسان قدرته على تحويل السالب إلى موجب».