عادل حمودة يكتب: صفحات من مذكرات أشهر موسيقار فرنسى نهديها إلى وزير السياحة والآثار قبل افتتاح المتحف الكبير

مقالات الرأي



مصر تستقبل القرن الجديد بحفل أسطورى تحت سفح الأهرام شاهده العالم على الهواء مباشرة

سمع جون ميشال جار أم كلثوم وهو صبى فطلب الزواج منها وطعم موسيقاه بنغماتها

متعهد الكهرباء لم يأت بكل ما طلب منه إلا بعد أن أخذ بقشيشا

الحفل كان اقتراحا من مدير اليونسكو لدعم السياحة بعد حادث الأقصر

تكلف الحفل 9 ملايين دولار وتكلف حفل إسرائيل 25 مليونًا وحفل فرنسا 75 مليونًا ولم تنقل الفضائيات العالمية سوى حفل مصر!

المصريون ثقافتهم عربية لا فرعونية!


كل منهما كان صبيا عندما سمع غناء أم كلثوم أول مرة.. وكل منهما همس فى أذن أمه بعد انتهاء الحفل: أريد أن أتزوجها.

الأول موسيقار فرنسى شهير تمردت ألحانه على زمن باع أنبياءه ليشترى جهاز تكييف وقايض الشعر بسروال جينز هو جون ميشال جار.

الآخر فنان تشكيلى مصرى متميز كشفت لوحاته عن غضب متعدد الألوان من الفتاوى المفخخة والمذاهب كاتمة الصوت هو فاروق حسنى.

سمعت تلك الأمنية من فاروق حسنى مباشرة ونحن نصور برنامجا عن أم كلثوم.

وقرأتها فى مذكرات ميشال جار التى نشرت مؤخرا فى باريس:

ـــ أم كلثوم أسطورة مصر واحدة من أهم ذكريات صباى أخذتنى أمى إلى الحفل الفريد الذى أقامته فى باريس قائلة: سترى أنها موسيقى مختلفة وبعد ثلاث ساعات من أغانى تكشف عن الفروق الدقيقة بين المشاعر الإنسانية المتنوعة خرجنا من القاعة وأنا أكرر: أريد الزواج منها وكنت فى الحادية عشرة.

والاثنان معا عبرا بالعالم من قرن إلى قرن فى حفل موسيقى مذهل تحت سفح الأهرام فرضت فيه أم كلثوم نغماتها.

ميشال جار ولد يوم 24 أغسطس عام 1948 فى مدينة ليون.. ورث الموسيقى عن أبيه الذى هجر عائلته ليضع موسيقى أفلام فى هوليوود نالت جوائز مثل لورنس العرب ودكتور جيفاجو و عمر المختار كما أن صورته خالدة فى ممشى النجوم.

وعندما مات أوصى بحرق جثمانه مثل طوائف هندية ولكن المثير للدهشة أن ابنه لم يجد عند الدفن أحدا من نجوم أو مخرجى السينما أصدقاءه.. إنها هوليوود التى خلقت بلا ذاكرة.

فى الخامسة بدأ جار العزف على البيانو وبعد عشرين سنة باع من ألبومه الأول أكسوجين 12 مليون نسخة وفى الثلاثين من عمره دخل موسوعة جينس للأرقام القياسية بعد حفل قدمه فى موسكو حضره 3,5 مليون شخص.

فى شتاء 1999 اقترح عليه مدير اليونسكو فيديريكو مايور إقامة حفل فى مصر قائلا:

ــ سلط الضوء على ذلك البلد الرائع.. ادعمه فى مواجهة الهجمات الإرهابية.. أعد الروح إلى السياحة التى يعيش عليها ملايين من أهله.

كان فاروق حسنى وزيرا للثقافة عندما دعاه إلى مكتبه ليقترح عليه أن يكون الحفل تحت سفح الأهرام فى ليلة استقبال الألفية الثانية (عام 2000) لكنه لم يستمع إليه لتركيزه على اللوحة التشكيلية المعلقة خلفه والمائلة قليلا إلى اليمين: انتهى بى الهوس بالنهوض وتعديل الوضع قبل أن أقول له: الآن استحوذت على كل انتباهى.

لم يصدق جار ما عرض عليه: حفل فى هذا المكان لا يمكن رفضه رغم شعورى بأن المصريين أكثر ارتباطا بالحضارة العربية ولا تؤثر الأهرام فى ثقافاتهم لكن شدنى ذلك التباين وأنا أضع موسيقى الحفل.

فى ذلك الوقت كان جار غارقا فى الحزن.. انفصلت عنه زوجته شارلوت وتركه أولاده ليعيشوا حياتهم مكتفيا بمتابعة دروسهم.. واختلف مع شريكه ومنتج أعماله فرانسيس دريفوس.. تحولت صداقتهما إلى عزلة وعتاب واستياء.

يضيف جار: لم يرد دريفوس أن يسمع عن مصر ولم يستفد من هذه الفرصة لإصدار ألبوم جديد سأمزج فيه بين أصوات الرمال والصخور وصدى الصحراء وبرودة التكنولوجيا وكان على أن أبحث عن شركة إنتاج أخرى.

ويستطرد: عهد فاروق حسنى بمسئولية الحفل إلى رجلين: زاهى حواس ومصطفى ناجى.

الأول: نصف مغامر ونصف متأمل يميل إلى أجواء أنديانا جونز ويوصف بأنه حارس المعبد وقد شعرت بالتميز عندما أخذنى إلى موقع حفريات أثرية كان لا يزال مغلقا أمام الجمهور.. إنها لحظة غير عادية أن يعود التاريخ إلى الظهور حرفيا.

والثانى كان مديرا للأوبرا وقائد الأوركسترا الذى سيقود الموسيقيين والمغنيين المشاركين فى الحفل أو فى المغامرة.

بفضله انغمست على الفور فى ثراء الموسيقى المصرية ووجدت صياغة لحنية تحمل نغمات أم كلثوم لبعض الوقت.

كان هناك ثالث تذكره فاروق حسنى هو الدكتور فوزى فهمى الذى كان يوصف برجل المهام الثقافية الصعبة.. تولى المسئولية الإدارية والمالية.. والتنسيق مع الجهات المختلفة لنجاح الأمسية فى وقت كان هناك خشية من عملية إرهابية.

اختار جار: أحلام الشمس الاثنى عشر عنوانه لعرضه مستوحيا نغماته من العقائد المصرية القديمة التى تؤمن بأن الشمس رمز للخلود وأنها تمر من غروبها إلى شروقها باثنى عشر بوابة حتى تولد من جديد فى ألفية جديدة.

تجسدت أحلام الشمس فى رموز توالت خلال العرض المبهر الذى اختلطت فيه موسيقى جار بموسيقى شرقية ومصرية وسط مهرجان من الليزر بجانب رقصات موروثة ومعاصرة دون شعور بالملل رغم استمرار طول العرض الذى شهدته مباشرة (12 ساعة).

بشكل عام كانت العروض القليلة التى اختارت سفح الأهرام تقام بجانب تمثال أبى الهول الذى جمد الحضارة الفرعونية يقول جار.

ويستطرد: أردنا إحساسا بالصحراء وعاطفتها.. منظر طبيعى من لورنس العرب.. لمدة يومين بحثنا عن موقع موحٍ.. استقررنا على الجانب الغربى حيث كثبان رملية لا نهائية.. وفى الأفق مبان متناثرة.. ولكن.. هذا المكان لم يكن مستعدا لمثل هذا الحفل.. كان علينا إحضار الكهرباء.. وبناء المسرح.

انغمسنا فى الكثبان الرملية المرهقة.. الحرارة ساحقة.. الليالى باردة قاسية.. لم يخفف من عتمتها سوى قمر لا مثيل له.. جمعنا أجهزة عرض أوروبية ثبتت على سقالات.. بدت الأهرام تحت الإضاءة وكأنها استردت شبابها.. أمامها مسرح يشبه محطة فضاء مثل ستار جات.. مشهد مثير صممه مارك فيشر نفذه فنيون شعروا بصفاء غامض.

وسجلت الموسيقى على أجهزة كمبيوتر وخشى جار ألا تعمل عند الانتقال من قرن إلى قرن حسب المخاوف التى روج لها خبراء التنكولوجيا.

وكان على مساعدى جار للتكنولوجيا تغيير السنة والقرن فى منتصف الحفل الذى سيبث على الهواء مباشرة ليشهده العالم كله.. لم يكن لدينا ترف الخطأ ولو بسيطًا.. أو غير مقصود.. سمعة الجميع كانت مهددة.

وفى تلك البقعة النائية كانت هناك حاجة إلى الكهرباء.. طلبت تسعة مولدات.. لكنهم لم يروا سوى ثلاثة وستة جمال.. قيل لهم إنها قوية ومليئة بالطاقة.. لم تكن مسألة جهل.. إنها قصة بسيطة من كلمة واحدة: البقشيش.. بمجرد الدفع مشيت الجمال وجاءت المولدات.

على أن ذلك لم يؤثر على شعور جار بالسحر الذى يسيطر على الأجواء.. ومضى مع فيشر وقتا فى المتحف المصرى الاستثنائى الذى كان مصدرًا لانهائى للإلهام.. خاصة المعروضات الملكية: تماثيل ولوحات ومجوهرات وعروش ومومياوات.. ولكن.. تلك المتعة ضاعت بسبب القطع المتربة ومتاهات الزوايا.

ويضيف: اطلعنا على الصفحات الأصلية من كتاب الموتى وهو مخطوطة بردية يضعها المصريون فى التابوت بجوار المتوفى.. دليل إرشادى جنائزى للمساعدة فى البعث من جديد.. وثيقة رائعة.. باستثناء أنها معرضة للشمس مما يهددها.. وكان يجب القيام بشىء ما للمساعدة فى حمايتها.. طلبت استقطاع مبلغ من ميزانية الإنتاج للحفاظ عليها.. وخصم المبلغ.

فى تلك السنة (1999) كان رمضان فى منتصف ديسمبر مما جعل تجهيز الموقع أكثر صعوبة على معدة خاوية للعمال المصريين طوال اليوم.. لذلك كان علينا أن نعمل فى المساء وعلى وجه الخصوص لتجنب ضربات الشمس.. أثر رمضان أيضا على الحفل.. كانت الفكرة تسعى إلى تعزيز الصلة بين المصريين والأهرام بالتعبير عن احترام الدين أكثر بكثير من الاحتفال بالألفية الجديدة أمام واحدة من عجائب الدنيا السبع.. تخيلت سيناريو يدعى أحلام الشمس الاثنى عشر وربطت بين الأسطورة ورمضان.. بين غروب الشمس والفجر.. بين آخر صلاة فى المساء وأول صلاة فى اليوم التالى.

أردت التعبير عن هذه المشاعر المثيرة التى أسرتنى فى مصر كثيرا وكى أؤكد لدى الحشد الكثيف من الرجال والنساء الذين حضروا العرض على ثقافة التقارب.

وصل الجمهور إلى مكانه فى العرض مع أغطية وأكياس النوم واحتياجات النزهة.. عالم سعيد على استعداد للقرفصاء فى الرمال.. وانضم إليهم أمى وأصدقائى والمعجبون الذين جاءوا من كل مكان.. سنعمل معا على تغيير القرن فى جو احتفالى.. دون إدراك الخوف.. لكن ابنتى أميلى شعرت بالرعب من حدوث هجوم إرهابى.. وقرر جارى واليس (وهو عازف طبلة شاب) ارتداء سترة واقية من الرصاص.. من جهتى كنت مقتنعا بأن الإرهابيين يضربون فى أى مكان وفى وقت لا تتوقعه وهذا مصدر قوتهم.. خفف الأمن شعورنا بالخطر.

وجاء صوت أم كلثوم قبل منتصف الليل بقليل ليطمئن الجميع.. تفاعلوا معنا.. ونسوا مخاوفهم تماما.. كانت اللحظات الأكثر تأثيرا فى تلك الليلة.

فى الصباح الباكر من شهر يناير 2000 بدأ سقوط الثلوج الناصعة وهذه حقيقة نادرة للغاية وعلامة على فأل خير للمستقبل وتعهد بالسلام والازدهار.

بعد ما يقرب من عشرين سنة لم يفقد الحفل سحره ولا يزال يشاهده العالم بعد تسجيله على شرائط.

بعد عشرين سنة خلد جار الحدث فى مذكراته.

حصل على نسخة من المذكرات الدكتور نصيف قزمان وترجمت الفصل الخاص باحتفال الألفية مى سمير.

فوجئ حسنى بنشر المذكرات فأضاف إليها قائلا:

كنت فى باريس عندما تقدم منى ميشال جار وقدم لى نفسه عارضا تقديم حفل الألفية عند الأهرام ليحقق حلما تمناه طويلا وجلسنا معا نفكر فى كيفية التوافق بين موسيقانا وموسيقاهم وهنا اكتشفت أننا نتشارك فى عشق أم كلثوم منذ كنا صغارا.

حسب المذكرات لم يتكلف الحفل أكثر من 9 ملايين دولار استردت مصر جزءًا كبيرًا منها بعد أن باعت الحفل إلى فضائيات عالمية منها سى إن إن التى نقلت 105 دقائق منه ويضيف فاروق حسنى: إن حفل الألفية فى إسرائيل تكلف 25 مليون دولار وحفل فرنسا تكلف 75 مليون دولار ولكنهما لم يلفتا نظر العالم مثلنا.

ربما نستمتع بقراءة هذه الصفحات من مذكرات أشهر موسيقار فى العالم ولكن لم لا ندرس تجربته فى مصر لنستفيد منها ونحن نستعد لافتتاح المتحف الجديد؟.

ليس على وزير السياحة والآثار خالد العنانى تكرارها ولكن يمكنه استيعاب نتائجها ليستلهم منها احتفالا لا يقل عالمية عنها.