د. رشا سمير تكتب: سفر برلك.. رحلة إبحار فى قلب الجزيرة العربية

مقالات الرأي



تعودنا من دور النشر الكُبرى فى المعارض تقديم الأعمال التى تستحق لإضفاء بصمة حقيقية على المشهد الثقافى، وتعودنا أن يحظى معرض الكتاب بتقديم الأعمال والأسماء المتميزة..ولكن الحقيقة اختلف الأمر هذا العام وربما فى الأعوام القليلة الماضية..

لقد تحولت دور النشر من تقديم المتميز إلى تقديم أى شىء وكل شىء، لدرجة جعلت رواد معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام يطلقون نكتة تقول (إن كل من قرأ كتابين أصبح من حقه أن يكون الثالث من تأليفه)!.

نعم تحول القراء جميعا إلى كُتاب، وظهرت أسماء دور نشر لا تظهر إلا فى معرض الكتاب ثم تختفى للأبد.. عناوين لا نسمع عنها مرة أخرى بعد المعرض!..

هل يعنى هذا أن ما يحدث إثراء للحالة الثقافية؟!.. سؤال إجابته القاطعة: لأ طبعا!.

إن وجود آلاف العناوين التى لا تُقدم ولا تؤخر حجبت ظهور الإبداع الحقيقى وأضاعت فرصة الكثيرين فى زخم ما يقدم.. ولكن فى رأيى أنه لا بقاء إلا للأصلح، ولا يعيش إلا الأفضل..الإبداع ليس سلعة يا سادة، الإبداع رسالة تستحق أن نسمو بها.

وسط كل الزيف مازال هناك أصحاب رسالة حقيقية فى الأدب، أدباء ومؤرخون وناشرون يسعون لتقديم المتميز من الأعمال الأدبية..

واحدة من الدور المتميزة فى النشر هى دار الساقى للنشر والتوزيع بلبنان، الدار التى تعودت اقتناص الجوائز من بين كل المسابقات الأدبية بثقة كبيرة واستحقاق حقيقى حتى وإن قلت إصداراتها مؤخرا مقارنة بالسنوات الماضية ربما بسبب ما يحدث فى لبنان، والحالة الاقتصادية التى أثرت على النشر والتوزيع والقوة الشرائية فى لبنان..

1- القلم والتاريخ:

يبدو أن التاريخ كان وسيظل مادة خصبة للروائيين كى يقتنصوا منه الحكايات ويصنعوا منها أساطير وروايات، كل بحسب معتقداته ونظرياته.. الحقيقة الأكيدة أن الروائى المتمكن فى منطقة التاريخ الشائكة وإن كان قادرا على نسج أحداث روايته بطريقة شيقة تسمح للقارئ بالتسلل بين الصفحات، والإبحار فى بعض الفترات المنسية، ربما تدعوه مرة أخرى بعد الانتهاء من الرواية إلى معرفة المزيد عن تلك الفترة بالقراءات المتعددة.

أحسب الروائى السعودى مقبول العلوى واحدا من هؤلاء الروائيين الذين يكشفون الغطاء بذكاء عن بعض الفترات المنسية فى الجزيرة العربية، موطنه الذى تفيض كلماته عشقا له عبر كل أعماله الروائية..

فقد وصلت روايته الأولى «فتنة جدة» للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2011، ولاقت استحسانًا نقديًّا كبيرًا، كما فازت روايته «زرياب» بجائزة معرض الرياض للكتاب عام 2015، وحصل على جائزة الطيب صالح فى القصة القصيرة عن مجموعته «القبطى» عام 2016.

ونحن الآن أمام إصدار متميز آخر هو رواية (سفر برلك) الصادرة عن دار الساقى فى عام 2019 والتى تقع فى 158 صفحة من القطع المتوسط، التى دخلت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر لعام 2020.

2- الاحتلال الدامى:

توقفت كثيرا أمام عبارة «سفر برلك»، أسأل نفسى: تُرى ما هو مغزى العنوان؟.. وعندما قمت بالبحث وبعدما أخذنى الكتاب بين دفتيه وتعمقت فيه عرفت المعنى..الكلمة تعنى النفير العام أو التأهب للحرب، وهو ما يعود بنا إلى الفرمان الذى أصدره السلطان العثمانى محمد رشاد، بتاريخ 3 أغسطس عام 1914، ودعا فيه الرجال الذين يبلغون من العمر بين 15 و45 عاماً، من العثمانيين أو العرب، إلى الالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية، وكان ذلك قبل ثلاثة أشهر تقريباً من قيام الحرب العالمية الأولى، فى 28 تموز (يوليو) 1914، استعداداً من الدولة العثمانية للوقوف إلى جانب ألمانيا فى الحرب، وشكّلت تلك المرحلة أيضاً بداية انهيار الدولة العثمانية، وسقوطها عام 1923.

تتناول الرواية فترة الاحتلال العثمانى للمدينة المنورة فى أوائل القرن العشرين، حيث يبحر بنا الروائى بتمكن فى المكان والزمان شارحا كيف كانت أحوال البسطاء هناك فى تلك البقعة المهمة للعرب والمسلمين حيث مدينة رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ومكة المكرمة.

من خلال بطل الرواية الفتى الأسود (ذيب) الذى يوقعه حظه العاثر أسيرًا بين يدى قطَّاع طرق ليباع عبدًا لأحد وجهاء المدينة المنورة، ولكن ينقلب الحال بالمدينة وأهلها بعد الثورة العربية التى قام بها (شريف مكة) ضد الوالى العثمانى، وما تبع ذلك من ويلات على الناس فى المدينة.

3- عالمين بين كفى الميزان:

تنتقل الرواية برشاقة بين عالمين متوازيين، أو دعونى أقول إنها تعقد مقارنة مستترة بين ما يفعله اللصوص وقطَّاع الطرق بالأطفال الذين اختطفوهم من أهلهم وذويهم، وعلى الصعيد الآخر بين ما يفعله حاكم المدينة بالناس من خلال فرض سيطرته عليهم وجبروته المعتاد وما يمارسه من سلطان جعلهم يرتعدون خوفا.

فنلمح طوال الوقت قسوة الحاكم، وجبروت العثمانيين فى كل السطور ومن بين السطور أيضا..على سبيل المثال حين يصيح فخرى باشا قائلا بعجرفة كبيرة:

(إذا عجزت عن إيجاد حلولٍ لهذا العصيان، فأنا لدى الحل، اسمع ما أقوله جيدًا ونفذه بحذافيره فهو فرمان من حاكم المدينة ولا مناص من العمل به، ضع شريطًا أمنيًّا من جهات المدينة الغربية والشرقية والجنوبية، ودع الشمالية مفتوحة ليمر منها القطار، وحتى لا يهرب القادرون من أهلها فينضموا إلى شريف مكة أو أتباعه فى قرية بئر درويش والجفر وينبع وما حولها، ثم أقفلوا الحوانيت والدكاكين بل الأسواق بكاملها، فإذا جاء هؤلاء العربان فسيخرجون من المدينة صاغرين. امنعوا البيع والشراء بكل وسيلة، وصادروا ما تجدونه من مواد غذائية حتى التمر. شكِّل فرقة من الجنود لتجميعه من النخل بالقوة الجبرية إذا لزم الأمر. ضعوه فى صناديق واحتفظوا به فى القلعة أو مستودعات ثكنات الجنود).

4- ذيب والحنين:

تبدأ الرواية على لسان ذيب البطل الرئيسى للرواية، ثم تنتقل فى بعض الفترات البعيدة إلى الراوى العليم الذى يحل محله..وهو ما أصاب بعض القراء بالحيرة فى بعض الأماكن وهو ما عبروا عنه بوضوح على المواقع الخاصة بنقد الكتب وتقييمها..

الرواية فى الحقيقة هى رحلة البطل ذيب من مكة إلى المدينة المنورة، ومن ثم إلى مدينة تبوك، ووصوله أخيراً إلى مدينة دمشق، وهو ما يعكس بصمة الكاتب طول الوقت على الحقب التاريخية والأماكن التى يزورها البطل، وهو ما يظهر أيضا فى حنين ذيب طوال الوقت إلى المدينة المنورة.

(كان شوقى وحنينى يشكلان امتدادا طبيعيا للصحراء التى أقطعها يوما وراء يوم، ويتسامقان متماهيين مع الجبال البعيدة التى تتدثر بغلالة ضبابية من الأتربة العالقة فى الهواء).

يبدو تعلق ذيب بطل الرواية بالمدينة جليا وهو ما أفسره بأنه تعلق المؤلف أيضا بالمدينة المنورة التى تسمح له باكتشاف الحب والمتعة وراء العلم والعمل هناك، وبعد تغربه عن الصحراء، يأخذه الرحيل من جديد حين يُجبر على العودة إلى المدينة، وقت يقتله الشوق فى منفاه بدمشق إلى العودة.

كتب يقول:

(كنت أمشى فى الشوارع مشية مودع، أسير متمهلا مراقبا كل ما حولى بعناية فائقة، وأشعر بإحساس غامر أننى لن أرى هذا المكان مرة أخرى فى حياتى، فقد أزف وقت الرحيل والعودة إلى الديار).

كنت أتمنى أن تطول الرواية قليلا، لأننى أرى أنها تحتمل المزيد من الشرح والاستفاضة..الرواية التاريخية عادة ما تكون طويلة أما حين تُبتر فهى تسبب خيبة أمل للقارئ.

ولأننى من عشاق الروايات التاريخية لأنها تأخذنى عادة إلى عوالم لا أعرفها وأماكن لم أزرها، فهى تفتح أفقى للمزيد من التبحر، فأنا بالمثل أدعوكم إلى قراءة تلك الرواية المختلفة والمكتوبة بلغة سلسة أنيقة تدل على تمكن الروائى.