مينا صلاح يكتب: مدد يا دسوقي

مقالات الرأي

محمد الدسوقي
محمد الدسوقي


قد تراه فقيها، وقد تراه من أولياء الصُحافة الصالحين، بضم الصاد كما علمنا الصحيح في علم الضاد، وكما يصح أن يكون، شيخًا قسيسًا وقديسًا، في تعامله مع المادة الخام للصحافة، يبارك هدب ثوبها، ويسبح لله شاكرا على نعمتها، فهي ليست وظيفته بل رسالته، التي حملها على كفيه كناموس موسى ومخطوطات رمسيس، رأيته فرعونا دون تجبر، حين أمسك قلمه وبدأ يخط قواعد اللغة وأصول الصياغة على ورقيات، لو كنت أعلم مثقال ما وضعه من حبر لكنت أبدلتها ببرديات وطليتها بالذهب والفضة، وختمتها بخاتم لا يفتحه إلا المختارون الصاعدون لقمة هيكل المهنة.

حروف مرتبكة، وكلمات متلعثمة، وحالة من التشتت لم أمر بها من قبل، فكيف للفكرة أن تتبلور وأنا أسطر عن أحد أهم شيوخ الصُحافة في مصر، الذي ملك علم أبو الأسود في التأويل، ومزجه بعلم سيبويه في التبسيط، رافعًا راية الفراهيدي في العروض، رأيته ابن جنى في نباغته، وأبا العباس في بلاغته، هو الذي لقنني منذ عقد من الزمان معنى اللغة العربية، وضوابط قواعدها، وأصول سردها، الكاتب والأستاذ الحائز على محبة الصغير والكبير بتقدير امتياز محمد الدسوقي، الذي عجزت عن وصف أمانته، وهمة رايته، وإخلاص تأدية رسالته.

سطوري ليست لإنصافه فلن تزيد من قامته ولم تنتقص من محبته، فلا فضل للتلميذ على أستاذه، ولا مكانة تعلو على الجالسين فوق مقاليد المهنة، أنا من دراويشه، الذين التفوا حوله منذ 10 سنوات، حين أعلنت ملاك الصحافة عبير السعدي، عن دورة تدريبية، في العناوين الصحفية، حين كان ملقى على عاتقها مسؤولية لجنة تطوير المهنة والتدريب بالنقابة، وأمانتي تحتم على نقل ما عاصرته.

تدوينة نشرتها "سعدي" عبر مجموعة للصحفيين على شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" تٌعلن من خلالها عن الحجز في دورة تدريبية مجانية للأستاذ محمد الدسوقي، في فنون صياغة وتحرير العناوين الصحفية، فقدمت أنا وزملائي وتوقعنا جميعًا استبعادنا، وكعادتها تُفاجئنا بالقبول، وإذ نحن في حضرة أحد القامات، أبيض الوجه، أحمر الوجنتين، مبتسم الفكين، ملقيًا علينا السلام، وكأن جرس المدرسة ضربه أحدهم ليس معلنًا عن بدء حصة أو محاضرة جديدة، بل منبهًا بأن هناك أستاذا قدم إلينا من عالم آخر، وكأنه ابن رشد قدم إلينا بفلسفة صحفية عبر بها الزمن لينقل إلينا، صلب الماضي وأصالته، وحداثة الحاضر وعلمه، إنه محمد الدسوقي.

ينظر إلى الحاضرين في هدوء، ويبدأ قوله "الصُحافي يظهر من عنوانه"، يا للهيبة، من أين أتى العجوز بهذه الثقة المفرطة، وكنا نظن وقتها أننا نسل الكاتب محمد حسنين هيكل رحمه الله في الإبداع، حتى صدمنا بجهلنا، دون تعالي وتباهي، سرد بالتفصيل الممل قرابة الثلاثين نوعا من العناوين، وكأننا في حضرة أستاذ ورئيس قسم الصحافة، وأخذ يطبقها على موضوعات متنوعة، فسألت الحاضرين في حيرة شديدة، ما الذي يجبره وهو على قمة كبرى المؤسسات أن يجالس أنصاف الموهوبين من أمثالنا، حتى تعثر أحد الحاضرين في فهم نقطة معينة، وإذ بالإمام الذي يقود فريق الصُحافيين، يعيد ويزيد، يشرح دون كلل أو يلوح بالرحيل من باب التهديد، حتى أعاد الشرح والتحليل قرابة الخمسة عشر مرة، رباه من يملك طيلة البال لذلك ودون مقابل مادي، حتما نحن في حضرة شخصية استثنائية، غير اعتيادية.

بات الدسوقي يداعب الحاضرين، ويلقى نكاته، ليخفف من أجواء اللغة وتضاريس المدارس الصحفية، حتى صادقه الجميع ناسفًا الحواجز النفسية الخرسانية التي خُلقت منذ أمد الدهر بين المعلم وصغاره، ليفتح مجالات للنقاش امتدت إلى كل ألوان الصحافة وقوالبها ولم تقتصر على العناوين فقط.

كنا آنذاك بحاجة شديدة إلى التدريبات المستمرة، والتي لم تبخل علينا بها الأستاذة عبير السعدي، لقلة الحيلة وضيق الحال، وكعادة أهل مصر "الجدعنة" تشاورنا فيما بيننا هل يسمح الدسوقي أن ينقل علمه لزملائنا!.. وتجرأ أحدنا وسأل أستاذ محمد ماذا يفعل زميل مهنة إذا احتاج لنصيحتك، فأجاب في صمت وهدوء، بابتسامة راقية "عنوان مكتبي ميتوهش" وأملى علينا رقم هاتفه، وتحمل مشقة وعناء التساؤلات وسخافة صحفي شاب في البدايات، حتى أصبح حديث الساعة.    

عملت برفقة زملائي في مؤسسات عديدة، وتولينا مسئولية وضع العناوين ولقينا ثناء الهيئات التحريرية المختلفة، حقًا لم نكن وقتها نملك التشدق بالتباهي أن الموهبة لنا، ولكن الفضل لمن نقلها لنا، وغرز القيم في نفوسنا، بين المهنية والإبداع، مشوار شاق، وطريق طويل، كادت أقدامنا أن تغرس في وحل الصحافة الصفراء لولا انتشال الدسوقي لنا. 

ظللنا نتباهى ودام فخرنا به حتى كتابة هذه السطور، أننا تتلمذنا على يد الكاهن الحاسم، المتسامح، الأمين، في كبرى قلاع الحريات نقابة الصحفيين، تفاخرنا به، وبأنفسنا، وحملنا رسالته في نقلها لمن عبر السبيل يسأل ولمن أرهقته مشقة الطريق يأمل، ومر الوقت، وإذ بنا أمام تدريبات لجنة القيد بنقابة الصحفيين، وها بالفاتح يدق أبواب البهو، المحاضرة الأولى مع الأستاذ محمد الدسوقي، واليوم سيحاضر في فنون التحرير الصحفي.

دخل الأستاذ بابتسامته المعهودة، فارتجف قلبي، يا لعدالة السماء ولحظنا الوفير، سنبدأ إعادة تأهيل مع صاحب العلم الغزير، لتزداد فرحتي التي وصلت لحد اللا وصف حين أعلن أنه سيتطرق إلى شرح كل ما يتعلق بالكتابة والصياغة والنحو، فضلا عن إعادة العناوين، فسارعت يداي نحو قلمي، وأمسكت مدونتي، أسجل وأدقق وأدعو الله أن يمنحني طاقة من التركيز فوق طاقتي، لأحقق أكبر قدر ممكن من الاستفادة.

"ليس لنبي كرامة في وطنه"، فاليوم يتجرأ أحد المغيبين عن الوعي، للتطاول على قامته وشيبته، متعجرفًا ملوحا بأن الرجل لا يرد على التساؤلات، ولا يجيب عن الاستفسارات، إلا في حالة الحجز بإحدى دورات نقابة الصحفيين في فنون الديسك، والتي يتولى أمرها الدسوقي، بثمن بخس لا يضاهي الواحد في المليون من قيمة علمه، الذي لا يليق وصفه سوى بالجبل الصلب الذي يحتضن مناجم الذهب في داخله، والماس في جوفه.

ولسوء حظ الأستاذ أنه تعرض لوعكة صحية، فكيف له أن يمرض كأي إنسان، فإذ بـ"برميل المفهومية" يتطاول عليه، لسوء حالته الصحية، وعدم مقدرته على الإمساك بهاتفه والرد على رسالته التي كانت ستغير محور الكون!

عذرا أستاذ محمد الدسوقي على ما بدر، وما سيبدر، بالنيابة عن من خذلك فأنت المثل والقدوة، والأمس واليوم وغدا، أنت الحاضر بعلمك في أذهاننا وإن لم نلتق.

أتمنى إن عجزت مفرداتي عن التعبير والوصف، أن تحقق غايتي، ويستريح ضميري، فأنا الفقير إلى الله الذي اغتنيت بالله وبعلمك قدر استطاعة عقلي المحدود، وكم يسعدني الجلوس تلميذا ولو واقفا على قدمي أتلقى منك العلم رشفات حتى ولو بلغ حظي من الدنيا أرذله.