عادل حمودة يكتب: هل ستعود ألمانيا فوق الجميع من جديد؟!

مقالات الرأي



احتلت المركز الرابع من حيث الناتج القومي بعد الولايات المتحدة والصين واليابان

تحررت من تبعية واشنطن وبدت على طرفي نقيض فى غالبية القضايا العالمية


وزيرة الدفاع طالبت فى خطاب لها أمام الأكاديمية العسكرية بمزيد من مساهمات الجيش فى الخارج لدعم المصالح الاستراتيجية.. ورفعت ميزانية الوزارة بزيادة 4 مليارات يورو لتصبح 42٫9 مليار يورو

إذا كان من السهل تغيير جلد الرجل الأسمر إلى جلد أشقر.. وتحويل امرأة سويدية إلى امرأة إفريقية.. ومعالجة برودة الإنجليز بالهرمونات فٌإن من المستحيل تغيير عقيدة التميز التى تسيطر على مشاعر الألمان حتى لو لم يفصحوا عنها وبقيت صامتة تحت جلودهم.

والمؤكد أن غالبية القادة الذين حكموا ألمانيا عزفوا تلك السيمفونية.. وصاغوا منها شعارات تزيد من تأثيرها وقوتها.. أهمها شعار: ألمانيا فوق الجميع .

ولكن.. هذا الشعار أصبح محرما بعد هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية.. بل عمليا احتلت ألمانيا بجيوش الحلفاء المنتصرين.. وقسمت بينهم.. وخضعت لسيطرة القوى العظمى التى تحكمت فى مصيرها.

على أن الإيمان بالتميز راح يجرى فى شرايين الألمان دون استعجال للظهور حتى كشف عن نفسه بإعادة توحد البلاد وقوة الاقتصاد وتماسك الأمة: احتلت المركز الرابع من حيث الناتج القومى بعد الولايات المتحدة والصين واليابان.. والخامسة من حيث القوة الشرائية.. ويزيد متوسط دخل الفرد فيها على ٤٤ ألف دولار.

ولكن ذلك العملاق الثرى ظل بعيدا عن ملاعب السياسة الدولية خشية اتهامه بالسيطرة على جيرانه، كما حدث من قبل مسببا فى إشعال حربين عالميتين قتل فيهما أكثر من سبعين مليون شخص.

ظلت هذه العقدة تحكم ألمانيا وتظهر أمامها مثل إشارة حمراء.. تفاجئها.. وتجبرها على تخفيف السرعة.. أو التوقف نهائيًا.. بحيث يعود محرك السيارة إلى الصفر بعد أن كان فى ذروة اشتعاله واندفاعه.

وحتى لا تلفت الأنظار إليها مارست ألمانيا السياسة الخارجية متوارية وراء دولة كبرى.

لعقود طويلة ظلت ألمانيا فى ذيل الولايات المتحدة.. تمشى خلفها فى خط مستقيم.. وتمسك بجلبابها.. ولا تفكر فى الاستقلال عنها.. ولكن اختلاف المصالح فرض تغيير المواقف.. وفى وجود رئيس أمريكى مثل ترامب يقيم المواقف الدولية حسب سعر صرف الدولار تحررت برلين من تبعية واشنطن بل وبدت على طرفى نقيض فى غالبية القضايا العالمية وآخرها الاتفاق النووى الإيرانى واغتيال قاسم سليمانى الرجل القوى فى طهران.

ولجأت ألمانيا إلى فرنسا لتكون البديل الذى تتوارى خلفه ولكن فرنسا لم تعد بالقوة التى كانت عليها من قبل وانشغلت بمشاكلها الداخلية وانكفأت على نفسها طالبة الدعم والعون.

لم تجد ألمانيا مفرا من أن تفصح عن مواقفها الدولية بنفسها مباشرة ودون وسيط خاصة عندما طالبها ترامب بزيادة موازنة الدفاع كى تساهم فى تمويل نفقات حلف الأطلنطى (الناتو) بعد أن قررت الولايات المتحدة تخفيض حصتها بدعوى أنها لن تحمى أوروبا على حسابها.

وبالفعل قرر وزير مالية ألمانيا أولاف شولتس زيادة ميزانية الدفاع بأربعة مليارات يورو لتصبح ٤٢٫٩ مليار يورو بما يساوى واحدًا ونصف فى المائه من الناتج القومى على أن تصل إلى اثنين فى المائة من الناتج القومى عام ٢٠٢٤.

وما دامت ألمانيا تدفع ثمن المزمار فما الداعى أن تخفى وجهها وهى تعزف عليه.

وخرجت وزيرة الدفاع أنيجريت كرامب كاربناور عن تحفظات كل من سبقوها وأبدت استعداد بلادها إلى إرسال قوات ألمانية إلى الخارج ولو كان ذلك خارج مخططات حلف الأطلنطى.

وفى اليوم الذى عقد فيه مؤتمر برلين لم تستبعد الوزيرة قيام بلادها بمهام عسكرية فى ليبيا لحفظ الأمن هناك حتى لا يكون الاتفاق السياسى حبرا على ورق وثرثرة منتديات تسبب صداعا ولا تؤدى نفعا.

وقامت القيامة.. وعادت المخاوف من خروج المارد الألمانى من القمقم مثيرا المتاعب من جديد.. ولكن.. سرعان ما اتضح أن الوزيرة التى يسمونها: أكاكا مدعومة من أنجيلا ميركل.. وربما خلفتها فى رئاسة البلاد بعد أن خلفتها فى رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى.

والوزيرة درست العلوم السياسية واشتغلت بالمحاماة ومارست العمل النيابى فى البرلمان وكانت حاكمة لولاية سارلاند، مما يعنى أنها تعرف جيدا ما تقول ولا تتكلم إلا بعد أن تدرس الملفات الضرورية.

وتحتاج الحكومة إلى موافقة البرلمان الاتحادى (البوندستاج) قبل إرسال قوة عسكرية نظامية إلى الخارج ويحدد الطلب نوع المهمة ومكانها وعدد الجنود ومستوى التسليح.. ولا تزيد الموافقة عن سنة.. يجب إعادة القوات بعدها أو تجديد الموافقة على وجودها فى الدولة التى أرسلت إليها.

وتشارك ألمانيا فى قوات الناتو الداعمة لحكومة أفغانستان (٩٨٠ جنديا) وقوات الناتو التى تحرس البحر المتوسط وتحمى الملاحة فيه ضد شبكات تهريب الأفراد (٦٢٠ جنديا) وقوات التحالف الدولى لمحاربة تنظيم داعش فى سوريا والعراق (١٢٠٠ جندى) وباتفاقية خاصة تؤهل القوات الألمانية وتدرب الجيش العراقى وقوات البيشمركة الكورية فى حربهما ضد الميليشيات الإرهابية المسلحة (١٥٠ جنديا).

وفى عام ٢٠١٢ شارك ألف جندى ألمانى فى قوات الأمم المتحدة (أصحاب القبعات الزرقاء) فى مالى لدعم السلام فيها لتجنب مزيد من الحروب الأهلية هناك.

ووصلت مهام القوات الألمانية فى الخارج إلى دارفور (السودان) وممر هرمز (الخليج) وفى لبنان.

لكن تلك المشاركات الرمزية لا ترضى أكاكا وطالبت فى خطاب لها أمام الأكاديمية العسكرية (نوبيبرج) بمزيد من مساهمات الجيش فى الخارج لدعم المصالح الاستراتيجية ولحماية طرق تجارتها فى وقت تتراجع فيه الولايات المتحدة إلى الخلف مما يفرض على ألمانيا التدخل بقوة وبمبادرة منها ودون انتظار دعوة من أحد.

تضيف أكاكا: إن بلدا فى هذا الحجم وبقوة اقتصادية وتكنولوجية بهذا القدر وبلد له هذا الوضع الاستراتيجى ومع مصالحنا العالمية لا يمكن له ببساطة الوقوف على الهامش مكتفيا بالفرجة .

والحقيقة أن أنيجريت كاربناور ليست أول مسئول يطالب بدور عسكرى أكبر فقد سبقها إلى ذلك الرئيس الألمانى السابق هورست كولر لكن اتهامه بعسكرة السياسة الخارجية جعله يستقيل فى مايو ٢٠١٠.

على أن التغيرات التى أصابت العالم فى العشر سنوات الماضية جعلت الأحزاب السياسية المحافظة تتقبل بكثير من الحذر رؤية الوزيرة: شراسة القوة الروسية فى التعامل مع جيرانها (ما حدث فى أوكرانيا) والعمليات الإرهابية المتزايدة فى المدن الكبرى وصعود الصين المرتبط بنوع من التطلع إلى الهيمنة وفى الوقت نفسه تنسحب الولايات المتحدة من مسئولياتها الدولية كما أن أوروبا أضعف من أن تحمى نفسها.

وبجرأة مذهلة هددت الوزيرة بفرض عقوبات على تركيا إذا ما أرسلت قوات عسكرية إلى ليبيا وسبق أن أعلنت التهديد ذاته عندما ضايقت السفن التركية الشركات القبرصية فى التنقيب عن الغاز فى البحر المتوسط.

وبجدية يصعب تجاوزها رفضت الوزيرة بصفتها رئيسة حزب الأغلبية الاتفاق الروسى التركى الذى دعا إلى وقف إطلاق النار فى ليبيا فالقضية الليبية أعقد من ذلك بكثير وتحتاج لضمير دولى حى ولو لبعض الوقت كى لا يؤدى الصراع على المصالح إلى خسارة الجميع وأولهم الشعب الليبى نفسه.

وقد راعت ألمانيا اختيار المشاركين فى مؤتمر برلين أن يكونوا مؤثرين فى المشهد الليبى وأن يكونوا قادرين على تنفيذ ما يتوصل إليه المؤتمر من اتفاق بتشكيل لجنة منهم لتنفيذ بنوده بجانب لجنة أممية أخرى تدعمها وتساندها وتراقب عملها وتراقب حظر إرسال السلاح والميليشيات إلى ليبيا وتشكل لجنة أمنية ليبية ثالثة مهمتها نزع أسلحة التنظيمات والميليشيات المسلحة وتشكل لجنة عسكرية رابعة لمراقبة وقف إطلاق النار.

وفى الجانب السياسى هناك اقتراح بتشكيل مجلس رئاسى ليبى وحكومة وحدة وطنية تنبثق من مجلس النواب.

وفى مرحلة لاحقة تشكل لجنة لإعداد دستور دائم تمهيدا لإجراء انتخابات رئاسية ليكون الشعب الليبى وحده صاحب القرار.

والمؤكد أن تنفيذ تلك البنود سيسقط مذكرتى التفاهم بين أردوغان والسراج وكانتا مبرر إرسال قوات تركية إلى ليبيا.

لكن السؤال الأهم: كيف تضمن ألمانيا تنفيذ ما ينتهى إليه المؤتمر؟

الإجابة: القوة المسلحة.

لقد أعلنت ألمانيا أنها مستعدة لإرسال وحدات عسكرية ٌإلى ليبيا حتى تنفذ كلمتها.

ولو حدث ذلك فإن ألمانيا ستدخل عصرا جديدا لا تخاف فيه من قوتها بل تفخر بها لتحقيق مصالحها.