"أطفال القمر".. حكايات صغار تنكرهم الشمس ويصافحهم الليل

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


حين تتوارى أشعة الشمس، ويبدأ الليل في فرض حجابه على المدينة، تبدأ أسرة "خلود كوربي" بأخذ احتياطاتها المعتادة داخل البيت الذي تغلفه الستائر من كل الجوانب، فتلف جنبات المنزل إضاءة خافتة، مصدرها مصباح كهربائي لا تنبعث منه أشعة فوق بنفسجية، بل ضوء أزرق توزعه أنابيب إضاءة بلورية، هذه الأجواء الهادئة والخالية من الأشعة الضارة ألفتها الأسرة منذ سنوات طويلة، بعد إصابة ابنتهم بمرض القمر؛ ضمن أكثر من 3 آلاف إصابة داخل دول المغرب العربي، تستحوذ تونس وحدها على زهاء ألف حالة، تتركز بكثافة في الأجزاء الجنوبية.

للوهلة الأولى التي يطرق فيها اسم المرض الآذان، تتداعى إلى الذهن الصورة الجميلة للقمر الذي يتوسط بقعة الظلام الدامس في السماء، فالتسمية جاءت كي تلطف من المصلطح العلمي للمرض المعروف بـ"جفاف الجلد المصطبغ"، وهو عبارة عن مرض وراثي نادر يعاني المصاب به من حساسية شديدة من أشعة الشمس فوق البنفسجية، وينتج عنه جفاف الجلد وتغير لونه، وله تأثير كبير على العين وأجزاء الجلد الأكثر تعرضًا للشمس.






لم تكن خلود قد بلغت عامها الأول عندما دق المرض الغامض أبوابها، ووضع طفولتها السعيدة في إطار من صورة صعبة، ستبذل لاحقًا محاولات كبيرة كي تتأقلم معها ومع العالم من حولها. لم يكن يزعجها الأمر في البداية لأنها لم تدرك أن البقع المتناثرة في وجهها والشبيهة بالنمش، يمكن أن تكون محل نظرات الناس المحدقة بها والتي تحاصرها أينما حلت "كانت نظراتهم لي قاسية جدًا"، فكانت تقاومهم بالتجاهل مرة وتبادل النظرات بذات الأهمية مرة أخرى، لكن في بعض الأحيان كانت تخور قواها وتضعف "كنت أهرب منهم وأبكي"، تقول صاحبة الـ26 عامًا لـ"الفجر".

تتذكر الشابة جيدًا تفاصيل اللقاء الأول لها بين الطلاب في المدرسة، لا تنسى الخوف الذي استبدّ بهم عندما رأوها، وكيف ظلت عيونهم معلقة بها لدقائق، لم تتمالك نفسها وعاودت أدراجها إلى المنزل، وخلال ذلك كان اللقاء يمر أمام عينيها مثل فيلم سينمائي، وفي عقلها تدور تعليقات طلاب الفصل مقترنة بغضبها "تخيف، لم أنت هكذا، لم وجهك هكذا"، كانت تعود بأطنان من الحزن فتذوب جميعها بين أحضان أسرتها المشحونة بالدفء والدعم والتشجيع، لذا تعتبرهم سندها الهائل في رحلة صعبة وطويلة.





جمعية أطفال القمر، هي أحد أكبر الجمعيات في تونس التي تعني بهذا المرض والحالات الناجمة عنه، حيث توفر لهم بيئة آمنة يعيشون فيها بتلقائية، فيقول الدكتور محمد الزغل، رئيس الجمعية والطبيب المتخصص في الأمراض الجلدية، إن طفل القمر يولد بصحة جيدة من دون أي علامة إصابة، لكن لدى تعرضه للأشعة فوق البنفسجية الآتية من الشمس أو من مصابيح الإضاءة العادية يحمر وجهه، ويستمر هذا الإحمرار ما بين 4 و 5 أيام، ويكون مصحوبًا بتسلخات جلدية، ثم تبدأ بقع بيضاء وأخرى بنية في الظهور، ومع مرور الأشهر تتطور هذه البقع إلى سرطان جلدي. ولدى بلوغ هذه المرحلة، لا مجال لإيقاف التطور السريع للمرض إلا بالعيش في فضاء خالٍ من الأشعة فوق البنفسجية، والوقاية منها عبر ارتداء ملابس كاسية وأقنعة ونظارات واقية إضافة إلى استعمال مراهم جلدية على كامل الجسد.





يعاني أطفال القمر من تجاهل دول المغرب العربي رغم الخطورة الكبيرة للمرض، حيث تغيب عنهم العناية الكافية في الوقت الذي تتقلص فيه الاستتثمارات العلمية والطبية المتعلقة به، ما يضع هؤلاء الأطفال بحسب ما يقول الزغل في دائرة التهميش، حيث تتعلل الأجهزة المعنية بأن المرض لم يرق بعد إلى مستوى الظاهرة المفزعة، وهو ما أدى بالشابة العشرينية أن تظل مدة طويلة بداية إصابتها بالمرض لا تعرف حقيقته وما يمثله من خطورة، نظرًا لأن الأطباء وقتها لم يتمكنوا من تشخيص حالتها جيدًا، الأمر الذي دفع بها إلى إجراء عمليات جراحية كثيرة "لم تكن جميعها سهلة أبدًا".




تحب رزان سعيد -اسم مستعار- الشمس كثيرًا، تعشق انعكاس خيوطها على الجدران وجداول الماء، محظور عليها أن ترى ذلك بعينها وأشعتها مسلطة عليها، فتسبح أفكارها في مسلسل متدفق من مشاهد متخيلة، فأطفال القمر يمارسون حياتهم بتوقيت معكوس، ففي حين تدب الحركة في أوصال الشوارع والأزقة مع بداية شروق الشمس، ينصرفون إلى بيوتهم كي يتابعوا حركة الحياة من وراء نوافذ محكمة وستائر ثقيلة، منتظرين على عطش مجيء الليل كي يعانقوا حياة صامتة وخالية إلا من ثرثرة المارة العائدين إلى منازلهم، وضوضاء السيارات المسرعة فوق الطرقات، فالحياة في كنف الليل تعتبرها صاحبة الـ18 عامًا صعبة ومرهقة، بالإضافة إلى أنها مأهولة بالوحشة والأفكار السيئة.




لم يسمح المرض لخلود من التنقل بحرية كسائر أقرانها، لكنه لم يتمكن من إقصائها عن الطموح ومواصلة أحلامها، حيث أصرت أن تقهر الظروف، فانطلقت تمارس حياتها بأمل جامح، فهي طالبة بالسنة الرابعة ببكالوريا الآداب، كما لوّنت أيامها بالكتابة والرسم، وجدت فيهما متنفسًا ونافذة تطل على عالم أرحب تهرب إليه كلما اشتدت بها الرغبة، فالكتابة بالنسبة لها كانت أكثر الفرص كي تعبر من خلالها عما تشعر به "أقوم أيضًا بتزويق الفخار والرسم على البلور"، فيما تمثل تجربتها مع المرض مصدر إلهام لها في اقتناص الأفكار وتدوين الخواطر التي تطرأ على ذهنها باستمرار، وتتمنى أن تعبر كتاباتها إلى الضفة الأخرى، حيث الكثير ممن يمرون بظروف نفسية مرهقة.






المشهد ليس ضبابيًا بالكامل، حيث بدأت الأبحاث والدراسات التي يجريها الزغل ورفاقه تؤتي ثمارها، فتمكنوا بفضل علم الأحياء الوراثية من تحقيق اختراقات متقدمة في سبيل مكافحة هذا المرض، كما أصبحوا قادرين على تمييز كل أنواعه الوراثية "بتنا نمتلك قدرة على القيام بتحاليل الأجنة الوراثية والتعرف على الأفراد غير المصابين الحاملين لنسخة من جين المرض"، ويضيف أن لديهم كل التقنيات اللازمة لتقليص عدد المصابين بالإعاقات الوراثية بنسبة 80%، لكنهم ما زالوا بحاجة إلى التمويل الكافي لمواصلة هذا العمل.






كلما ألحت على رزان الرغبة في الخروج صباحًا، يتحتم عليها أن ترتدي الملابس المخصصة لأطفال القمر، وهي عبارة بدلة ثقيلة ذات نظارات خاصة وقناع واقي يوضع على الرأس لعزل الأشعة "رفضتها في البداية لكني اقتنعت بها في النهاية". وتقول إنه بين فترة وأخرى تحتاج إلى وسائل حماية خاصتها، وتتطلب منها أن تسافر إلى تونس العاصمة من ولايتها مدنين الواقعة في الجزء الحنوبي الشرقي، وهو ما يمثل لها عبئًا ثقيلًا، حيث إنها لا تستطيع التنقل في أي وسيلة مواصلات، عدا السيارات ذات النوافذ المحصنة ضد أشعة الشمس.