"في البدء كانت اللغة".. حكايات غير الناطقين بالعربية تزامنًا مع يومها العالمي

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


ربما كان السؤال الذي يدور في عقل "حبيب الرحمن مجلسي"، وهو على متن الطائرة المتوجهة من أفغانستان إلى القاهرة عام 2011، عن الكيفية التي يمكن أن يتأقلم بها مع التجربة الجديدة، وكيف يمكن أن يختلط بجموع أهلها ويتحاور معهم دون أن يجد ثقلًا للكلمات في قلبه وعلى طرق لسانه، لذا تعهد أمام نفسه أن يتجاوز صعوبة اللغة العربية في وقت وجيز، حتى لا يشعر بالغربة مرتين؛ الأولى عن وطنه، والثانية عن أصحاب البلد التي يدرس فيها.

في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، يحتفل العالم باليوم العالمي للغة العربية، حيث وقع الاختيار على هذا التاريخ بالتحديد، للاحتفاء باللغة، بعد القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973، بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة، حيث تعد إحدى اللغات الأكثر انتشارًا واستخدامًا في العالم، إذ يتكلمها يوميًا ما يزيد على 290 مليون نسمة من سكان المعمورة، وفق منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو".





الانتشار الكبير الذي حققته اللغة العربية، ساهم في تحقيقه الوافدون عليها بعد أن أصروا على التحدث بها، إما لظروف الدراسة أو العمل أو حبًا في فك شفرات اللغة التي يتحدثها ملايين البشر، لذا حاولنا التقاط حكايات كان أبطالها طلاب وفدوا إلى مصر للالتحاق بجامعاتها، نروي تجربتهم معها، من التلعثم إلى أن أصبحوا قادرين على مجاراة أصحاب الأرض وعاميتهم في إلقاء النكات والتعليقات الساخرة، أو حتى النقاشات الجادة.

الاقتصاد والعلوم السياسية كان وجهة حبيب الرحمن، وعلى الرغم من التحاقه بالشعبة الإنجليزية، إلا إنه لم يجد بدًا من تعلم العربية حتى يكون قادرًا على التعامل مع زملائه في الجامعة وأقرانه في السكن، فذهب إلى أحد مراكز تعليم اللغة، لكنه لم يجد الصعوبة نفسها التي تلمسها في غيره من الوافدين، حيث اعتاد قراءة القرآن الكريم بنسخته العربية، الأمر الذي أعطاه بعض المفاتيح سبر بها أغوار اللغة الجديدة، والتي اعتبرها أصعب من الأفغانية "اللغة فيها وزن وإيقاع جميل".





لم يكن الشاب الأفغاني صاحب الـ31 عامًا، يريد تعلم اللغة فحسب بل كان يتملكه شغف التمكن منها، والقدرة على تخطي المواقف الصعبة التي من الممكن أن تعترضه في أي وقت، وفي سبيل ذلك كان يتعمد أن يجري حوارات قصيرة مع زملائه المصريين يتحدث معهم بالفصحى تارة والعامية تارة أخرى، لكن أسرته العامية المصرية لما تحويه من بساطة وفكاهة "مصر لغتها عربية ورغم ذلك لا تتحدث إلا العامية"، هذه المفارقة بين ما كان يتعلمه في المركز ما يتلمسه في أحاديث المصريين العادية، تثير في داخله الدهشة والحيرة، فكان يسأل نفسه باستمرار "متى أتعلم وأفهم كلام الناس".





وحتى يضع نفسه في طور أصعب، التحق بأحد النشاطات الطلابية بكلية سياسة واقتصاد، كمندوب في مجلس لا يتحدث أفراده إلا العربية، يناقشون فيه القضايا الفكرية التي تمور بها الساحة العربية والإسلامية، يعتبر حبيب أن هذه التجربة فجّرت داخله الحب والاعتزاز باللغة العربية، حيث كان يُرغم على نقاشات مطولة وتحضيرات مكثفة معتمدًا بشكل كلي على العربية، كانت تواجهه صعوبة أحيانًا في الفهم لكن يعوضها قدرته على التحدث والقراءة والكتابة.





بعد أن عاد إلى أفغانستان لم يعد الأمر كما كان "وضع اللغة ليس جيدًا لا أقرأ ولا أتحدث بها"، غادر الشاب مصر لكن لم يغادره حب اللغة والارتباط بها، فحين يغلبه الشوق يشاهد الأفلام العربية، تشعره أنه فقد جزءًا كبيرًا من رصيده اللغوي، لكنه يحاول أن يمسك بزمام ما تبقى لديه بأن يعلم العربية لأخيه الصغير ويزرع في قلبه حب التحدث بها. في كل مرة يعود حبيب بالذاكرة إلى الوراء يعتدّ كثيرًا بنفسه، لأنه صار لديه الملكة في التحدث بثلاث لغات؛ العربية والتركية والإنجليزية، بجانب لغته الأصلية.

كان تعلّم اللغة العربية، على رأس الصعوبات التي جابهها صبر الدين مرشدي، عندما جاء إلى مصر 2017، قادمًا من أوزبكستان، خاصة حين التحق بكلية التجارة الشعبة العربية، حيث وجد مذاكرة مفتوحة على عالم شاسع من المصطلحات الحسابية المعقدة، ضاعف من صعوبتها أن جميعها بالعربية، فوجدها أشبه باللغز خاصة أن معاني ومدلولات الكلمات، تتغير بناءً على "الفتحة والضمة والكسرة"، ما جعلها في نظره أصعب لغات الأرض، يفصلها عنه أسوار عالية لا يستطيع عبورها، لذا ولى وجهه شطر مركز تعليم اللغة العربية للوافدين، والتابع لوزارة التعليم العالي.
 



واجهت صبر الدين، ذات المشكلة التي تواجه كل الطلاب الوافدين في بداية تعلمهم للغة العربية، فكان من الصعب عليه أن يستحضر الفصحى داخل التعاملات اليومية مع المصريين الذي لا يتحدثون سوى العامية "نحن لم نكن نفهم العامية"، وفي ذات الوقت لم يستوعب المصريون لغتهم المبهمة، فزايله شعور أن العامية لغة مستقلة لا تمت بصلة إلى العربية.

بجانب مواظبته التردد على مركز تعليم الوافدين التابع للجامعة، وقع صبر الدين في غرام الأفلام المصرية، اعتبرها الوسيلة الأخف والأنسب لتطوير لغته الفصحى والعامية، فلم يكتف بمشاهدتها فقط بل صار يسمعها في كل مكان؛ في الجامعة والشارع والمنزل، حتى استطاع قهر عقدة اللغة، كما أصبح مخزون من الكلمات العامية وبعض النكات التي يتندر بها المصريون "أفتخر كثيرًا أني درست اللغة العربية".