رامى المتولي يكتب: The Irishman.. مارتن سكورسيزى يتحدى السينما التجارية

مقالات الرأي



الاستخدام الرشيد للتكنولوجيا المتطورة الفاخرة فى صناعة أفلامه جعله يضيق حدود مشاهدها

أن تعيش لتحكى وتصارع وتقاوم لتصنع ما تراه من وجهة نظرك إبداعًا، هو الوصف الأنسب للمخرج الأمريكى مارتن سكورسيزى المتمركز على يسار هوليوود فى نيويورك على الساحل الشرقى للولايات المتحدة، متحديًا كل ما تنتجه استوديوهاتها الضخمة والمتوسطة منذ بدايته مع فيلم Who›s That Knocking at My Door عام 1967، كواحد من مخرجى المواجهة وتحدى هوليوود أو الموجة الأمريكية الجديدة مع آخرين أبرزهم وودى الآن وفرانسيس فورد كوبولا وستانلى كوبريك، ما زال الرجل وهو على أعتاب عقده الثامن من العمر يتحدى هوليوود وإنتاجها على الساحل الغربى، وعلى مدار شهور وبسبب تصريحه لمجلة «إمباير» هو فى الحقيقة ذوق شخصى ورأى من زاوية المشاهد، فتحت هوليوود عليه النار ووصل الأمر أن يكون هناك صف طويل من العاملين فى عالم مارفل السينمائى والذى يضم حتى الآن ٢٢ فيلما يهاجم سكورسيزى فى اللقاءات العامة وعبر صفحات «السوشيال ميديا» ومع دخول كوبولا للمعركة وتصريحاته القوية ضد مارفل، دفعت رئيس الشركة الاستعمارية الكبرى «ديزنى» روبرت إيجر فى الدخول للمعركة دفاعًا عن «مارفل» التى تحولت لإحدى شركات «ديزنى» بعد الاستحواذ عليها.

سكورسيزى قال فقط عن «مارفل» إنه حاول مشاهدة أفلامها ولم يستطع فهى بالنسبة له كمدينة ملاهى لها شكل واحد، وهذا الرأى الذى صرح به فى مقابلة مبكرة عن فيلمه The Irishman والسؤال كان بشكل عابر، لكنه فى الحقيقة يعبر عن انحيازاته السينمائية، تُصنع الأفلام كما يخرجها هو ورفقاؤه، هذه هى رؤيته هو، لم يمنع شخصا من مشاهدة أفلام أخرى، فقط هو يروى حكايته بشكل مختلف، البعض يرى أن جانبه أفضل وآخرون مع «مارفل» وهناك من يستمتعون بالجانبين، أحدث أفلام سكورسيزى -فى الخطة فيلمان قادمان لم يتم الإعلان عنهما - هو فيلم افتتاح الدورة الـ٤١ لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى، بعد سلسلة من العروض المتتالية فى العالم قبل عرضه العالمى عبر منصة «نتفلكس».

كالعادة تخرج أفلام مارتن واقعية طبيعية، لا تحمل المسحة اللامعة لأفلام هوليوود، هى أكثر قسوة فى عرض ونقد المجتمع الأمريكى، تحاول دائما أن تغوص فى تفاصيل دقيقة وتدعو المشاهد العالمى للاشتباك معها وتكوين ثقافة مضادة لصناعة الأفلام التجارية الصرفة، قصة الفيلم نفسها تدعو للتأمل، فالبداية كانت عام ٢٠٠٧، شركة روبرت دى نيرو بطل الفيلم وشركة مارتن سكورسيزى كانتا ضالعتين فى تقديم وعرض الفيلم للتمويل وقتها، الخطوة الأولى كانت الاستقرار على الموضوع ووجد دى نيرو وسكورسيزى ضالتهما فى كتاب I Heard You Paint Houses لشارلز براندت عام ٢٠٠٤، حماس دى نيرو للكتاب انتقل لسكورسيزى الذى قرر إخراج الفيلم، لكن عملية إنتاجه لم تكن بالسلاسة المرجوة، وجب أن يتأجل المشروع ليحل بعد أفلام مارتن Hugo عام ٢٠١١ والذى يمثل رؤيته فى التعامل فنيًا مع السينما ثلاثية الأبعاد ثم The Wolf of Wall Street عام ٢٠١٣، وSilence عام ٢٠١٦، ولم يكن ممكنًا قبل عام ٢٠١٧ أن تظهر فكرة العودة لمشروع الفيلم الذى انتقلت حقوق توزيعه محليًا وعالميًا فى مقابل تمويله بين عده شركات حتى استقرت عند « نتفلكس» بميزانية ١٠٥ ملايين دولار فى البداية ثم زادت مرتين لتصل إلى ١٥٩ مليون دولار.

العملية الصعبة لصناعة ما يرغبه الثنائى روبرت ومارتن ثم آل باتشينو وجو بيشى أبطال الفيلم بعد ذلك ربما يكشف جزءا من المرارة التى يتناول بها مخرجو نيويورك بكل منجزهم الفنى أفلاما تجارية صرفة عندما تظهر للنور بسهولة وتحقق نجاحا على شباك تذاكر.

التعاطى مع الفيلم فنيًا يجعلنا ننظر بكل تقدير للتحديات التى وضعها سكورسيزى على نفسه عندما صنع هذا الفيلم، مبدأه فى الاستخدام الرشيد للتكنولوجيا المتطورة الفاخرة فى صناعة أفلامه جعله يضيق حدود مشاهدها فى الفيلم، حيث اختار أن يظهر دى نيرو وجو بيشى فى ٣ مراحل عمرية مختلفة منها الشباب والكهولة، وبالتالى لجأ لاستخدام التكنولوجيا ليظهر أبطاله أصغر عمرًا فى نطاق ضيق يخدم فقط تتابع الصورة فى مشاهد فيلمه المعتمد كليًا على الفلاش باك.

لم يكن هذا هو التحدى الوحيد، زمن الفيلم وإيقاعه وخطه الدرامى الأساسى كانوا تحديات أكبر بالنسبة له، فكرة العودة لعالم عصابات المافيا من جانب بالوجوه المألوفة فى هذا النوع من الأفلام مع زمن الفيلم الذى وصل لثلاث ساعات ونصف الساعة والإيقاع البطىء فى سير الأحداث وتطورها والمناسب أكثر لفكر الحكى وكأنها قصة قبل النوم المرعبة، مثلوا معا التحديات الكبرى لمارتن، لكنه فنيا تخطاها وجعل من The Irishman تحفة سينمائية جديدة تضاف لتاريخه وتاريخ المشاركين وتاريخ السينما وبنسبة كبيرة مؤكده منافسته على خط موسم الجوائز فى أمريكا الذى سيبدأ بعد أيام وسيستمر حتى فبراير المقبل.