د. رشا سمير تكتب: ومن الكذب ما قتل!

مقالات الرأي



حكى لى صديق أنه أثناء التفتيش فى مطار ألمانيا، سأله المفتش دون أن يفتح حقيبته: هل معك أى ممنوعات أو أشياء تخُالف القانون؟

تلعثم قليلا ثم قال: «لا إطلاقا»

أشاروا له بالمرور، ولكن قبل أن يخطو خطوة أخرى عادوا يقولون له مؤكدين:

«ولكن تذكر أن الكذب هى تهمة خطيرة قد تزج بك فى السجن بحسب قوانين ألمانيا، ربما تراجع نفسك مرة أخرى!».

لم تكن تلك هى الواقعة الأولى التى تؤكد على قيمة كادت أن تنقرض..

ففى التقرير النهائى لعملية التحقيق التى كلفت أمريكا قرابة السبعين مليون دولار، قال المحقق الأمريكى الخاص روبرت راى عن تلك القضية الشائكة:

«إن كلينتون عرقل مسار العدالة عن طريق شهادة الزور العلنية، تحت القسم، والتى قال فيها إنه لا يذكر مطلقا أنه انفرد بلوينسكى، المتدربة بالبيت الأبيض، وأنه لم يكن على علاقة جنسية معها»..وأضاف التقرير أن طبيعة وفداحة مخالفات كلينتون تقتضى تقديمه الى المحاكمة..

إذن لم تكن التهمة التى أودت بسمعة الرئيس الأمريكى وشعبيته وقذفت به إلى الهاوية هى إقامة علاقة مع المتدربة مونيكا لوينسكى، بل كانت القضية الكبرى والتى هزت وجدان الشعب الأمريكى هى الكذب تحت القسم!..

عندما أصبح الكذب ظاهرة خطيرة، أجرى فريق من الباحثين اختبارا شيقا على عينة من 80 فردًا، مع قياس كيفية تفاعل المخ مع الكذب، لتقدير مستوى الشعور بالذنب فى بداية الكذب وعند تكراره..من خلال تلك الاختبارات، توصل الفريق البحثى إلى أن الكذب يتعاظم مع تكراره، بل يبدأ الشعور بالذنب فى الانحسار كلما استمر الشخص فى الكذب..

توصل الباحثون أيضا إلى نقطة مهمة هى أنه بتكرار الكذب ومع وجود منفعة ذاتية من ورائه؛ يقل شعور الكاذب بتأنيب الضمير، كما تأكدوا من أن الانحراف السلوكى دائمًا ما يبدأ صغيرًا ثم يزداد.

الحقيقة أن الكذب آفة خطيرة جدا..نحن فى مصر سقطنا ضحايا لتلك الآفة بشكل مقلق، كبيرنا قبل صغيرنا، فنحن نزيف مشاعرنا ونحلل الخطأ حتى نعتاده..نكذب ونكذب ونكذب حتى نحترف الكذب، فنتصور أننا ضحايا..

نحذر أبناءنا من الكذب ونحن من اخترعناه، وتتوالى المسميات.. الكذبة البيضاء، الكذب عند اللزوم، المجاملة فى شكل كذبة، كذبة إبريل..وإلخ....إلخ..

لكن هل يصبح الكذب عدوا فى كل الأوقات؟

حين ظهر المفكر السياسى الداهية نيقولا ميكيافيلى، وضع ما أسماه «الأساس الأخلاقى» للخداع، وأقر بكل وضوح أن ما يعتبر من الأخلاق الحميدة والاستقامة بين الأفراد قد لا يصلح فى السياسة والحكم والعلاقات الدولية!

من ناحية أخرى أطلق السير هنرى ووتون الدبلوماسى البريطانى فى القرن السابع عشر مقولة باتت الأشهر فى الأوساط الدبلوماسية بأن السفير هو (رجل أمين أُرسل إلى الخارج، ليكذب من أجل مصلحة دولته)!.

ما يحزننى حقا أن الكذب بات جزءا من شخصيتنا جميعا، رجال وأطفال، ساسة وحمقى..

نحن نكذب لنعيش كما كنا يوما نتنفس لنعيش!.

المأساة الكبرى والتى فى اعتقادى كانت سبب انهيار دولة المبادئ فى مصر، هى أن صاحب التجارة يكذب ليبيع لك بضاعته الفاسدة..والعامل الذى تأتمنه على تصليح أى شئ يكذب مؤكدا أنه قادر على إعادة الشىء كسابق عهده وهو فى الحقيقة لا يفقه شيئا..

الطالب يكذب على المُعلم، والمُعلم يكذب على ناظر المدرسة، والمدرسة تكذب على أولياء الأمور، وأولياء الأمور يكذبون على بعضهم البعض!.

أصبح أقرب الطرق هى الكذب، وقالوا للحرامى احلف قال جالك الفرج والفرح كمان!..

أما فى أوروبا وأمريكا، وعلى الرغم من أن المسئولين والحكام قد يلجأون مرارا إلى الكذب إلا أن تلك الشعوب المتحضرة أصبحت تتعامل مع الكذب على أنه آفة، وتُهمة خطيرة يعاقب عليها القانون الدولى، فهو يسألك وينتظر الإجابة، ثم يأخذ الكلمة من فمك على أنها كتاب مقدس..إن فلحت فلحوا، وإن كذب صاحبها قذفوه بالطوب..بل حبسوه على خلفية تلك التهمة..

إذن فالشعوب التى لا تلتحف بالغطاء الدينى الكاذب تعترف أن الصدق منجاة، وأصحاب الذقون المتدلية احترفوا الخداع بالكذب..كيف؟..

اقترح أن نتعامل مع الكذب على أنه آفة، نوبخ أبناءنا لو كذبوا..ونقسو على أنفسنا حتى لا نكذب، ولنبدأ بأنفسنا..فالراع مسئول عن رعيته..

يا سادة..من قال لا أعلم، ليس تافها ولا ضعيفا..بل هو فى الحقيقة قد أفتى..

نحن مجتمع يكذب على نفسه وعلى بعضه البعض، نرتدى الزيف والرياء رداء للفشخرة، وفى الحقيقة أن الكذب ينخر فينا حتى النخاع..

دعونا نصلح من أنفسنا حتى ينصلح حالنا..

أقول قولى هذا... لى ولكم..