"إنسانية في زمن الحرب".. حكاية طبيب سوري يُركبّ أطرافًا صناعية للإنسان والحيوان

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


مع اشتداد الأزمة السورية وتتابع القصف على مدنها وأجزائها المترامية، كانت الرغبة داخل الطبيب غزال هلال تنصرف أكثر إلى الضحايا العالقين بين الأنقاض وركام المنازل المتداعية، خاصة من أدركتهم الشطايا الطائشة وسحبت بعضًا من أعضائهم، فسكن داخلهم التعب النفسي إلى جوار الألم الجسدي، لكن غزال عبَر بالكثير منهم أرض الخوف واليأس، إلى مناطق أكثر أمانًا يمكنهم فيها مواصلة الحياة والهروب من نظرات الشفقة التي ترافقهم أينما حلوا، وذلك عبر أطراف صناعية يقدمها لهم بالمجان، بجانب عمليات زراعة الأعضاء التي بدأها مؤخرًا، في مركز بمنطقة أعزاز شمال سوريا.

المرة الأولى التي عرف فيها غزال عمليات زراعة الأعضاء، كانت قبل 3 سنوات من خلال طبيب أجنبي، حيث شاهده يجريها لإحدى الحالات بالعراق، وقتها اشتدت فيه الرغبة أن ينقل هذه التقنية إلى سوريا والبلدان العربية الأخرى "ساعتها بلشت دراسة عنها"، حيث قضى الفترة التي أعقبتها يبحث عن الطرق والأساليب والمواد التي استخدمها هذا الجراح في سبيل الاستغناء عن الطرف الصناعي، فتحقق له الأمر عبر أحد الحالات المتبرعة، وحظيت فيما بعد بنجاح مع كل حالات البتر ما عدا حز الحوض فما يزال يجد صعوبة في التعامل معه، وهو ما يخضعه للدراسة والترتيب في الوقت الحالي.





كانت الأوضاع في سوريا هي التي وجهت بوصلة اهتمام الطبيب الشاب نحو عمليات تركيب الأطراف وزارعتها، حيث كانت أعداد حالات التبر في اطراد دائم "صار عنا ما يقرب من 200 إلى 300 ألف حالة"، ومع هذه الأرقام المتزايدة نشط عقله في التنقيب وراء الحلول الدائمة وليس المؤقتة، فطبيعة العمر الافتراضي للأطراف الصناعية تقتضي أن تتبدل كل سنتين أو ثلاثة، كما أن السوكيت المستخدم لا يقدم أكثر من 5% من الغرض المطلوب منه، وهو ما يدفع بالكثير من الحالات إلى النفور منه "ويقرر يبقى على حاله بدون طرف"، بخلاف الزراعة التي تعتمد على الإدماج العظمي حيث يلتحم فيها العظم مع الجزء المركب من التيتانيوم "بيكون طبي وما له آثار سلبية"، وهو ما تأكد له عبر الحالات التي عاينها في أكثر من دولة أوروبية.





تتم عمليات التركيب كلها بالمجان، إما من خلال التبرعات التي يتطوع بها الأشخاص المقتدرون أو الدعم الذي توفره لهم مؤسسة "الهاند كيب" إحدى المنظمات العالمية المختصة بالأطراف الصناعية. وحدها عمليات الزراعة هي التي يتحمل المريض تكاليفها، لما تتطلبه من فحوصات ومواد يصعب عليهم توفيرها دون مقابل، لذا فهم يبحثون بشكل مستمر على منظمات وأشخاص يقدمون لهم الدعم الكافي حتى يكون باستطاعتهم "تقديمها بالداخل السوري بالمجان".





يحظى الأطفال أصحاب حالات البتر بحصة كبيرة من اهتمام غزال. تؤرقه باستمرار فكرة أن ينظر هذا الطفل إلى أقرانه وهم يتقافزون في حبور دون أن يشاركهم اللعب، فيؤكد على أن هؤلاء الأطفال لابد أن يتم تدعيمهم بطرف صناعي في مرحلة مبكرة قبل أن يصبح الأمر شاقًا، كما يؤمن أنه في الوقت الذي يركب فيه الطبيب الطرف الصناعي لطفل صغير، يقوم في الوقت ذاته بزرع الإنسانية داخله "بحيث يطلع يحب الناس وعمل الخير، كمان ما يحس إن المجتمع اللي عايش فيه غير إنساني"، فهؤلاء الأطفال يلازمهم شعور دائم بالنقص دون باقي أقرانهم "عم بيشعر طول الوقت إنه اللي فقده من جسمه ما راح يتعوض"، لذا يكبر الأمر في عينيه ويزداد إقباله على الحياة كلما تقلص هذا الفارق.





على الرغم من طاقة الحب التي يغمر بها الطبيب السوري كل مرضاه، إلا إن رؤيته لطفل صغير يسير على قدميه مرة أخرى لا تضاهيها أي فرحة أخرى "لأنها بتكون بريئة"، حيث يفكرون في اللحظة التي يكون بإمكانهم اللعب مجددًا، بينما في في حالات الأشخاص الكبار تكتسي هذه الفرحة بعقلانية، تجلعهم يرسمون خططم المقبلة عن العمل وخدمة الأهل، وقبل ذلك تمكنهم من مساعدة أنفسهم دون الحاجة لغيرهم، والتغلب على إحساس الهزيمة والحزن والخوف من مواجهة الحياة الذي يراه على الدوام في عيون مرضاه في البداية، وهو ما يتحول بعد تركيب الطرف إلى إحساس مغاير.





من بين كل الحالات الكثيرة التي مرت على الطبيب السوري، ما تزال حكاية الطفلة مارية عالقة بذهنه، حيث حصد القصف كل عائلتها، وكانت هي الناجية الوحيدة مع قدم مبتور "رغم هيك بتكون سعيدة لما بتيجي عندي"، ثم تضاعفت هذه السعادة بعدما ركب لها الطرف وأصبح بإمكانها السير مجددًا، ويروي حكاية أخرى لطفلة لم يتعد عمرها الـ14 عامًا، فقدت كلتا رجليها نتيجة خطأ طبي، بقدر ما تثير هذه المواقف في نفسه الحزن بقدر ما تبعث على الفرح عندما يراهم واقفين على أقدامهم مرة أخرى، ويقضون الكثير من حاجياتهم بمفردهم.

تنحصر الرسالة التي يحاول هلال إيصالها من وراء تركيب الأطراف الصناعية وعمليات زراعة الأطراف، في أهمية العمل الإنساني والأثر الذي من الممكن أن يتركه في نفوس الأفراد، فمنها ينبع الحب والصدق والتفاني في العمل، وهي السبب الذي يعزز في نفسه الرغبة في تحويل أكبر عدد من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة إلى الحياة مجدددًا وإعادة دمجمهم مرة أخرى في المجتمع، كي يكونوا قادرين على تجاوز هذه المرحلة "كمان ما يحسوا إنهم عبء على المجتمع".






منذ أن بدأ هلال رحلته داخل عالم زراعة الأعضاء، تواجهه صعوبات ومعوقات عديدة، لكنه يحاول التغلب عليها وقهرها باستمرار، كان أولها عندما عرض الأمر على الأطباء بسوريا، حيث استهجنوا الأمر ورأوه عصيًا على التحقق لأنه فوق الإمكانيات المتاحة، فلم يذعن لآرائهم المثبطة وأثبت لهم من خلال عملياته العديدة صحة قوله، لكنه يرى أن هذه الصعوبات هينة بجانب اللحظة التي يعجز فيها الطبيب عن مد يد العون والمساعدة لمريضه، عندما يفوق الأمر قدرته على المساندة وتقديم الدعم "دا أكتر شيء بيكون له أثر سئ في نفس الطبيب"، والتي تكون أغلبها في عدم تمكنهم من توفير المواد والمستلزمات التي تتطلبها العملية.

لم تتوقف مهام الطبيب السوري وعمله الإنساني على إسعاف الناس وإنقاذ حيواتهم وأرواحهم زمن الحرب، بل تعدّت إلى مد يد العون  لكل محتاج، حتى الحيوان، حيث خاض أول تجربة من هذا النوع مع المهرة شام، إحدى الخيول العربية الأصيلة، التي فقدت قدمها اليمنى بعد القصف المشتد بريف حلب الجنوبي، وبعد إجراء العديد من العمليات الجراحية لها كي تتمكن من مجاراة أقرانها، توصلوا إلى حل وسطي يضمن لها التحرك، وذلك عن طريق طرف صناعي لها، لتكون تقريبًا هي الحيوان العربي الأول الذي يُركب له طرف صناعي، لذا اعتبر التجربة بمثابة تحدي لا يجب أن توجد فيه احتمالية ولو بسيطة للفشل.





كانت لحظة استثنائية بالنسبة لهلال عندما رأى المهرة تخطو في ثبات أولى خطواتها بالطرف الصناعي، حيث كسر صهيلها وقتها حاجز الصمت، ثم تبعه تصفيق مدوٍ من كل الحاضرين "كان شعور لا يُصدق"، كثيرًا ما يسأل نفسه بعدها "كيف حدث الأمر وخطت هذه المهرة مرة أخرى"، لكنه يفيق مرة أخرى على العناق الذي طوقته به بعد العملية "قبلها كنت أحدق بعينيها وأنا أركب الطرف طمأنتها بابتسامة، أننا سننجح".