د. نصار عبدالله يكتب: طعن تاريخي

مقالات الرأي



الزمان 1932.. حكم الطاغية إسماعيل صدقى جاثم على مصر.. التعليمات الصادرة إلى رجال الإدارة وبوجه خاص إلى ضباط الشرطة هى خلق حالة مستمرة من التخويف للمواطنين خاصة من مؤيدى حزب الوفد حتى يستتب الأمن والنظام فى ربوع البلاد.. يوسف أفندى الشافعى مأمور البدارى كان من أشد المتحمسين لتعليمات الباشا صدقى والمتفنين فى تنفيذها بشتى الوسائل.. محمد بك نصارعمدة البدارى من أشد المؤيدين لحزب الوفد ومن أشد المعارضين لحزب الحكومة التى يرأسها صدقى وهو ذلك الحزب الذى أسمى نفسه زورا بحزب الشعب رغم أنه بعيد كل البعد عن الشعب!!.. كان العمد والمشايخ يتلقون النصائح من جهات الإدارة بالانضمام إلى حزب الشعب إذا كانوا يرغبون فى الاستمرار فى مناصبهم فيهرع الكثيرون منهم للانضمام إلى حزب (الشعب).. ومع هذا فإن محمد بك نصار يرد على تلك النصائح بعبارة أصبحت فيما بعد مثلا : ملعون أبوها العمودية إذا أصبحت عبودية!! وبالطبع يفصل محمد بك نصار!!، لكنه رغم فصله يبقى صاحب الكلمة المسموعة من جماهير البدارى وصاحب الإرادة النافذة بينهم، وفيما بعد سوف تضطر جهات الإدارة نفسها إلى اللجوء للعمدة المفصول لا إلى العمدة الرسمى لكى ينقذها من الورطة التى حلت بها على غير انتظار، فبينما كان يوسف الشافعى أفندى يتنزه بين الحقول ساعة العصرية فى صحبة صديقه مفتش الرى إذ انطلقت من بين عيدان الذرة طلقات محكمة التصويب أودت بحياته!!، وعلى الفور انطلقت جحافل الشرطة تبحث عن القاتل لكنها لم تعثر له على أثر!! قامت باعتقال العشرات من المشتبه فيهم وتعذيبهم لعل أحدا منهم يعترف بأنه القاتل لكن أحدا لم يعترف وإن كان بعضهم تحت وطأة التعذيب قد اعترف فعلا بأنه القاتل واختلقوا حكايات وهمية عن شركاء لهم فى الجريمة لكن اعترافاتهم لم تكن تتطابق مع تفاصيل الواقعة التى لم يكونوا يعرفونها بطبيعة الحال ولهذا السبب تم صرف النظر عن أقوالهم المكذوبة!!.. قامت الحكومة بحظر التجول لمدة 24 ساعة يوميا للتضييق على الناس وتحويل حياتهم إلى جحيم ، كما قامت باستدعاء فرق الهجانة، وهى فرق سودانية تركب الجمال ويتسم أفراداها بالقسوة المفرطة للإشراف على حظرالتجول فكانت تلك الفرق تطوف الشوارع بالجمال وراكبوها يحملون السياط التى يقرعون بها بعنف كل من تقع أعينهم عليه هاتفين به خاصة إذا كان رجلا خشى بيتك يا ولية.. إحنا عساكر دورية!! (ولية تعنى: امرأة) عندئذ يهرول الرجل أو الولية عائدا إلى بيته.. لكن هذا كله لم يجد مع أهالى البدارى نفعا!! أخيرا لم تجد جهة الإدارة بدا من أن تلجأ إلى محمد بك نصار لعله يستخدم نفوذه المعنوى لكى يتعرف على القاتل ويقنعه بتسليم نفسه فى مقابل فك الحصار عن المدينة التى أوشك أهلها أن يموتوا جوعا مع وعد بعدم إلحاق الأذى بالقاتل ومعاملته معاملة إنسانية كريمة وتقديمه إلى محاكمة عادلة تكفل له فيها كل سبل الدفاع المشروع.. ويقوم العمدة المفصول باستدعاء القاتل : أحمد محمد جعيدى الشهير بالضرس ويقنعه بأن تسليمه لنفسه هو عمل رجولى من شأنه أن يحافظ على حياة الكثيرين من أبناء البلد المهددين بالموت جوعا والذين تقطعت بهم سبل العيش، وينصاع الضرس لنصيحة العمدة ويسلم نفسه هو وزميله حسونة أبوعاشور ، ويقدم القاتلان إلى محكمة الجنايات التى تستمع إلى دفاعهما ووصفهما لما تعرض له كل منهما فى مناسبة أو أخرى من التعذيب على يد يوسف أفندى الشافعى ، لكن المحكمة تستخلص من هذا أن نية القتل كانت مبيتة لدى كل منهما وأنها إزاء جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار!! ومن ثم فقد قضت عليهما بالإعدام!! ولجأ المحكوم عليها بالطعن فى الحكم أمام محكمة النقض التى كانت فى بداية عهدها، وكانت هذه القضية من أولى القضايا التى تنظرها برئاسة رئيسها الجليل عبدالعزيز فهمى باشا ، وقد أصدرت المحكمة فى هذا الطعن حكما تاريخيا يجمع بين الالتزام القاطع بالقانون، والالتفات إلى الجانب الإنسانى لوقائع الدعوى، وللحديث بقية.