"ما يزال الصوت واحدًا".. عائلة سورية تتعانق على مائدة الإنشاد

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


بعد اشتعال الأحداث في سوريا عقب الثورة، أُجبرت عائلة "القاضي" على الخروج من حماة، حاملين بعض المتاع والكثير من الذكريات والمواهب، ثم نزحوا إلى تركيا، وهناك فرقتهم أغراض الحياة والعمل، لكن قلوبهم ما زالت تنبض بالحنين للقاء يجتمع فيه شمل العائلة على طاولة واحدة يعيدون معًا سرد تفاصيل الأيام الأولى، وفي المرة الأخيرة أرادوا أن يحبسوا الزمن في لحظات التفوا فيها حول المائدة، فتعانقوا في صوت واحد، عبر أنشودة تلاقت فيها حناجر الأشقاء الخمسة، في محاولة لتهشيم الوحشة التي خلفها الشتات والمنفى.







منذ أن كانوا أطفالًا سكن حب الإنشاد قلوب الصغار، صاروا يتحينون الفرص التي يمكنهم من خلالها أن يستعرضوا مواهبهم الدفينة، فاحتضنتهم الإذاعة المدرسية عبر إلقاء أنشودة في الطابور الصباحي، حيث كان ينطلق أثير صوتها في الأحياء المجاورة، فذاع صيت العائلة حسن بين أقرانهم وجيرانهم "كان فيه إقبال منّا على هاي الموضوع"، يقول نادر القاضي، الأخ الأكبر لـ"الفجر".

تمتع الأشقاء الخمسة بالصوت الشجي في إلقاء الأناشيد، والقدرة على خطف قلوب مستمعيهم. لا يعتبر نادر أن الأمر وقع مصادفة، فهي موهبة توارثتها العائلة وتناقلوها فيما بينهم، حيث اكتنف قلوبهم حب الإنشاد وترنمت حناجرهم بكلماته الآسرة، لذا تسارعت خطاهم في المجال عن طريق خالهم الأكبر الذي كان منشدًا بسوريا "كان عم بيخرج في الاحتفالات الدينية"، ولم يفوت نادر وأخوته الفرصة فكانوا دائمًا ما يرافقون خالهم، مزاحمين الحضور على الاستماع أو حتى المنشدين بالسماح لموهبتهم في الإعلان عن نفسها، ثم صقلوها بالتدريب والإصغاء أكثر للأناشيد، وحدثوها بكل جديد ينزل إلى السوق.







كون العائلة نشأت في سوريا وتواجدت بين مدنها، يراه الشاب ابتسامة حظ، فالموهبة لا تكون بمفردها إنما تنمو وتزهر وسط أرض خصبة وتُروى بالاجتهاد والمثابرة، هذه المعادلة تحققت للعائلة من خلال وجودهم في حماة، فسوريا كما يراها نادر؛ بلد معروفة بخامات أصواتها الرخيمة والجميلة، بشكل جعلها الأميز في في الوطن العربي، إن كان على صعيد الإنشاد أو تلاوة القرآن أو الغناء.






مع مرور الأيام وحركة الزمن التي لا تتوقف عن الدوران، أخذت الحياة كل واحد منهم في منحى مختلف عن الآخر، فالأخ الأكبر يعمل أخصائي أسنان، والذي يصغره مباشرة لم يكمل دراسته للحقوق بعد تفاقم الأزمة السورية وما أعقبها من رحيل عن البلد، فيما يدرس الأخ الأوسط سينما وتليفزيون، بينما يعكف الآخر على تعلم هندسة الكمبيوتر، أما الأخير فهو طالب بالصف الأول الثانوي، ورغم تنوع مشاربهم وأذواقهم، لكن قلوبهم ما زالت متفقة على حب الإنشاد الذي عشقوه منذ الصغر "أنا الأخ الأكبر ولكني لست الأحسن صوتًا"، يقولها نادر مبتسمًا، ويؤكد أن أخاه عامر هو الأميز صوتًا بينهم، فيما يعتبر أن الإنشاد بالنسبة لهم بمثابة "حافز إلنا إننا نجتهد أكثر في الدراسة وفي الحياة عمومًا".







لا يتأتى للعائلة جميعها اللقاء إلا على فترات متباعدة، يتوقون لجلساتهم الصغيرة التي يغمرهم فيها الدفء والمحبة، فيذيبون بها وحشة المنفى وما يحيط به من مشاعر مختلطة، فأحبوا أن يظهروا سويًا في مقطع واحد يفعلون فيه الأشياء ذاتها التي أحبوها قبل الخروح من سوريا، ومصرين في الإبقاء عليها "وفي ذات الوقت يكون للذكرى"، فاختاروا الأنشودة بشكل عشوائي وسمحوا لأصواتهم في الانطلاق، فخرجت الجمل والكلمات  بشكل متناغم كما لو كانت تنطلق من فم شخص واحد لا خمسة.







قوبل الفيديو بتفاعل كبير وتعليقات استحسان وحفاوة كل من شاهده، وهو ما انطبع في نفوس الأشقاء بمزيد من السعادة والامتنان، يرجع الشاب السبب إلى الأداء الجماعي الذي تحركه الروح العالية لدى المندشين، الأمر الذي يضفي عليه جمالية أكثر من العمل المفرد "دايمًا الفيديو اللي بظهر فيه مع إخوتي بيكون فيه قبول وتفاعل كبير من الناس"، وهو ما شجعهم عام 2009 على المشاركة في المسابقة التي نظمتها قناة "فور شباب"، حيث حصد عامر القاضي، المركز الثاني وقتها، كما كان لهم حضور إنشادي مع بعض الفرق بمدينة حماة في سوريا قبل الثورة.





لم يسقط الشباب الوطن من ذاكرتهم، فهو ما يزال عالقًا بأذهانهم، تحمل قلوبهم صور مدنه الجميلة قبل أن تصير حطامًا، كما لم تقوض الغربة الحنين الذي يجذبهم ناحيته باستمرار، فأنشدوا له وللثورة في مهدها، وحتى بعد حالة الغربة التي فُرضت عليها تلهج ألسنتهم بها، فهم يؤمنون بأن "الإنشاد إرشاد"، ولابد وأن يُطوق برسالة هادفة يسعى المنشد إلى فرضها وتحقيقها، مهما بدت الأمور صعبة وعصية على التحقق.