"لا يجوع فيها أحد".. حكاية قرية عبسان الفلسطينية التي تنتصر على الفقر

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


مشهد بات ثابتًا لا يتغير لأهالي قرية عبسان الواقعة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، فقد اعتادوا على مدار يومين من كل أسبوع، أن يتقاطر الفقراء والمساكين وعابرو السبيل على تكية الخليل إبراهيم؛ حيث يُقدم لهم الطعام والشراب، لتختلف آلية العمل في شهر رمضان وتكون بشكل يومي، ما جعل البعض يصف البلدة القديمة بأنها "لا يجوع فيها أحد"، بحسب ما يقول عبدالله ذراز مسؤول التكية، لـ"الفجر".







فكرة التكية لم تكن وليدة العصر، بل يعود تاريخها إلى زمن بعيد، حيث إنها امتداد لمقام سيدنا إبراهيم المُلقب بأبي الضيفين، وتقع التكية في الجانب المتاخم له، الأمر الذي أعطاها قدسية ومكانة في قلوب المزارعين، فكانوا يترجمون محبتهم في التبرع بالهبات  وقت الحصاد، ويغمرون الفقراء بنفحات الأرض الطيبة. كانت الأمور تسير على وتيرة من الهدوء يدفعها الحب للخليل، واحتواءًا لمحبيه، حتى جاء عام 1948، ليعصف بالمزارعين ويجبرهم على فرض حالة من التقشف فتقلص معها عمل التكية، وأصبح معظم الأهالي في حالة يُرثى لها، ومع حلول عام 2018، بدأت بلدية عبسان في الالتفاف إلى التكية ومحاولة بث الحياة في أوصال جدرانها القديمة مجددًا، عن طريق "توجيه الخيرين في البلدة لتقديم يد العون والمساعدة".








التكية كما يصفها "دراز"، عبارة عن طابق أرضي يمتد على مساحة 70  مترًا ومقسم إلى جزئين؛ الأول تتناثر فيه أدوات الطبخ من قدور حديدية ومواقد غاز، أما الجزء الثاني فهو المكان المخصص الذي يُقدم فيه الطعام للفقراء. جهد كبير يبذله القائمون على التكية،  ينطلقون مدفوعين بالحماس والإصرار في خدمة أهالي البلدة، فالشخصان المختصان بطهي الطعام يعملان بشكل تطوعي بالكامل، ربما تنفحهم البلدية بعطايا مالية من وقت لآخر وعلى فترات متباعدة "وغالبًا ما تكون في شهر رمضان والأعياد"، لكنهم لا يعبئون إلا برسم البهجة على وجوه الفقراء، حيث يرون فيه كفاية ما يطمحون إليه.







لا يكتفي القائمون على تكية إبراهيم خليل بعمل الخير فحسب، بل إنهم يحيون الأكلات التراثية التي اعتادوا على تناولها من قديم الأزل، فيقتصر الطعام المُقدم على الجريشة وهي أحد الاكلات التراثية في عبسان "يعشقها أهالي البلدة لما تمتاز به من فوائد صحية"، كما أنها من الوجبات سريعة التحضير قليلة  التكلفة ولا تستغرق وقتًا طويلًا في إعدادها، وهو ما يصادف ميولهم كي يتمكنوا في خدمة أكبر عدد من الفقراء، فتتكون الوجبة التراثية من القمح والأرز مضافًا إليهما الماء أو المرق في حالة وجود اللحم، فيما يبلغ استهلاك التكية في كل أسبوع 80  كيلو لحم و50  كيلو قمح و12 كيلو أرز، يتم توزيعها على 320 محتاجًا.







مع الانتهاء من إعداد الطعام، يتوافد أهالي القرية حاملين القدور كي يأخذوا حصتهم من الجريشة واللحم، ثم ينصرفون ليتناولوها برفقة أسرهم أو جيرانهم، فيما يتناسب حجم الكميات التي يحصلون عليها طرديًا مع حجم التبرعات والهبات التي يغدق بها محبو الخير داخل فلسطين وخارجها، ومع دخول الشتاء تتحول بوصلة الاهتمام أكثر ناحية الملابس الثقيلة وأجهزة التدفئة، ليعيدوا توزيعها على الأهالي قبل أن يباغتهم الشتاء بصقيعه.






التكية لم تكن لتستمر لولا حرص أهالي القرية وشبابها على مساعدة الفقراء والمحتاجين في التغلب على ظروفهم، منطلقين من قاعدة مفادها أن العبء الذي من الممكن أن يثقل سكانها يهون كلما تكاتف الجميع في حمله والتخفيف من وطأته، خاصة أن الكثير منهم قبل قدوم الاحتلال كانوا يحوزون مزارع وبيوتًا، ويُرجع دراز السبب في ذلك إلى البركة والطيبة التي يتحلى بها قاطنو عبسان، فالفلاحون الفلسطينيون أدركوا قيمة الأرض وما يمكن أن تجود به على الإنسان، ولا يحبون أن يكون على الجانب الآخر من يغيب عنه هذا الانطباع الذي يترسب في النفس بمزيد من الرضا والسعادة "لذا تتكاثف الجهود لمساعدتهم والوقوف بجانبهم"، كما يعيشون على أمل أن تسعفهم القدرة والظروف وتتسع دائرة الخير فتشمل القرى المجاورة أيضًا، حيث يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 130 ألف نسمة.







يزامل الأهالي الطموح في النهوض بالتكية، والعمل على تطوير خدماتها وفق خطة مدروسة، حيث بدأت فكرتها بخاطرة عند شباب البلدة، ثم بدأت تتشكل ويكون لها حضور من خلال بناءالموقع، وما زالت تحاول أن يكون نشاطها مستمرًا وكافيًا، بالإضافة للوصول إلى طهي وجبات خفيففة "سندوتشات"، لطلاب المدارس الفقراء والذين يتوجهون لفصولهم بدون مصروف.

ينعكس المجهود الذي تقوم به التكية داخل الاهالي بمزيد من الفخر، لا ينفك هذا الشعور يرافق الجميع، فتسحيل معه المعاناة إلى سعادة وراحة تسكن القلوب وتزيل عنها مشقة الأيام وتحولاتها "لملاحظتهم أن أبناء بلدتهم يقفون إلى جوراهم" رغم الأحوال الاقتصادية الصعبة التي طالت الجميع، إلا أنهم تبرعوا باليسير من وقتهم ومدخراتهم، يشترون بها لحظات من الفرح لمن لم تسعفهم الأقدار على جلبها بأنفسهم.






تأثرت أعمال التكية بشكل كبير، بسبب الخناق والتضييق الذي يحكمه الاحتلال حول الأعمال التطوعية، والتي كانت نتيجة لتردي الأزضاع الاقثصادية، الأمر الذي ضاعف من أعداد الفقراء أمام تقلص ميسوري الحال والقادرين على التبرع "دا ضرب عملنا الخيري في مقتل"، يقولها مسؤول التكية بحزن قبل أن يضيف أنهم لا يأمنون أيضًا على أرواحهم وسط سماء ملبدة بالصواريخ تهدد الممتلكات ورصاص طائش يقصف الأرواح.