د. نصار عبدالله يكتب: سيد قطب فى مرايا نجيب محفوظ

مقالات الرأي



حين كان نجيب محفوظ يتلمس خطواته الأولى على طريق النشر، كان سيد قطب نجماً أدبيا لامعاً، وكانت مجلة «الرسالة» التى ينشر فيها، هى الأعلى صوتاً والأكثر تأثيراً من بين المنابر الثقافية والصحفية فى ذلك الوقت. 

ولقد اعترف محفوظ أكثر من مرة بأن سيد قطب هو أول ناقد أدبى التفت إلى أعماله وكتب عنها، بحماس لافت، حيث تكفى قراءة سريعة لما كتبه مثلاً عن رواية «كفاح طيبة» لنعرف هذه الحقيقة، فقد استهل قطب مقاله بقوله: «أحاول أن أتحفظ فى الثناء على هذه القصة، فتغلبنى حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها، هذا هو الحق أطالع به القارئ من أول سطر، لاستعين بكشفه عن رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه».

 ومع هذا لم يستطع سيد قطب فى مقاله أن يتخلص من هذا الحماس للكاتب والرواية التى رأى أنها تحكى: «قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد «أحمس» العظيم، وأنها فى حقيقة الأمر قصة الوطنية المصرية الصميمة فى كل قطرة من قطراتها».ويواصل فيقول: «لو كان لى من الأمر شىء لجعلت قصة «كفاح طيبة» فى يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها - الذى لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم التى لا عدد لها فى مصر، للمستحقين وغير المستحقين.أما مقال سيد قطب الثانى عن أدب نجيب محفوظ كتبه عن رواية «خان الخليلى»، وفيه أيضاً تبدت حماسة الناقد المعروف للأديب الشاب، مبشراً بموهبته الروائية الفذة، وعاقدا مقارنة بينها وبين «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، غير مبال أن يعلِّى من شأن «خان الخليلى» على «عودة الروح»، رغم أن الحكيم آنذاك كان من أساطين وأساطير الأدب فى مصر. وأما مقال سيد قطب الثالث فقد نشره فى مجلة «الرسالة حين صدرت رواية «القاهرة الجديدة»، حيث جاء المقال غاضبا على الحياة النقدية فى مصر، التى تغفل كاتباً ومبدعاً شاباً مثل نجيب محفوظ، «الذى لا يرتمى فى حضن أحد، ولا يتزلف لناقد، ولا يتقرب من مسئول، ولكنه يكتب ويبدع فى صمت ودأب»، ثم يصل إلى ذروة الثناء عندما يقول: «كان على النقد اليقظ لولا غفلة النقد فى مصر أن يكشف أن أعمال نجيب محفوظ هى نقطة البدء الحقيقية فى إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلأول مرة يبدو الطعم المحلى والعطر القومى فى عمل فنى له صفة إنسانية».

 وأما رابع مقالات سيد قطب عن نجيب محفوظ فقد كان عن رواية «زقاق المدق»، وكرر فيه الإشادة بفن نجيب محفوظ وأدبه، قال فيه: «نملك اليوم أن نقول: إذ عندنا قصة طويلة، أى رواية، كما نملك أن نقول إننا نساهم فى تزويد المائدة العالمية فى هذا الفن بلون خاص، فيه الطابع الإنسانى العام، ولكن تفوح منه النكهة المحلية، وهذا ما كان ينقصنا إلى ما قبل أعوام».

ومن ناحية نجيب محفوظ فقد كتب بدوره عن سيد قطب، ثلاثة مقالات.. أولها عندما صدر كتاب قطب «التصوير الفنى فى القرآن»: «والثانى كتبه عندما نشر سيد قطب روايته «أشواك»، والتى تحكى قصة حب حقيقية عاشها على الأرجح سيد قطب نفسه مع خطيبته إذ أهداها إليها مطلقا عليها اسم سميرة ومسميا نفسه سامى،.. وقد كتب نجيب محفوظ مقاله عن «أشواك» عقب صدور الرواية مباشرة، ذاكرا فى مقاله أن تلك الرواية «تجسد قصة حب سيد قطب نفسه، مستشهداً بالإهداء الذى قدم به قطب الرواية قائلاً: «إلى التى خاضت معى فى الأشواك، فدَميتْ ودميتُ، وشقيتْ وشقيتُ، ثم سارت فى طريق وسرت فى طريق، جريحين بعد المعركة، فلا نفسها إلى قرار، ولا نفسى إلى استقرار».

المرة الثالثة التى كتب فيها نجيب محفوظ عن مكتشفه سيد قطب، كانت فى عمله الشهير شبه التسجيلى: «المرايا»، وكان قطب قد مضى فى طريق غير الطريق. حيث نرى فى المرايا ذلك.

التحول الكبير الذى طرأ على حياة سيد قطب والذى انتهى به إلى عكس الطريق الذى بدأه حيث مضى فى طريق آخر يُكفّر فيه المجتمع، وقد أتيح لى أن ومعى مجموعة من جلساء نجيب فى كازينو قصر النيل أتيح لى أن أسمع منه مباشرة قصة لقائه الأخير بسيد قطب وقطب فى بيته بحلوان، حيث ذهب لزيارته رغم معرفة محفوظ بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه من متاعب أمنية، يقول محفوظ: «ذهبت لزيارته فى سنة 1964 بصحبة عبد الحميد جودة السحار عقب خروجه من السجن بعفو صحى، فى تلك الزيارة تحدثنا فى الأدب ومشاكله، ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، وكانت المرة الأولى التى ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذى طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره، لقد رأيت أمامى إنساناً آخر، حاد الفكر، متطرف الرأى، يرى أن المجتمع عاد إلى «الجاهلية الأولى»، وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله، انطلاقاً من فكرة «الحاكمية»، أى لا حكم إلا لله، وسمعت منه آراءه، دون الدخول معه فى جدل أو نقاش، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب؟».

 ويضيف محفوظ: لقد كان يحيط بقطب مجموعة من أصحاب الذقون الكثيفة، وهم ينصتون إليه فى إمعان وصمت وقد بدا على وجوههم الانقباض وعندئذ حاولت أن أكسر حدة هذا الصمت الثقيل، فأطلقت دعابة عابرة، مفترضا أن أساريرهم ستنفرج وسيضحكون، ولكنهم نظروا إلىَّ شذراً، ولم يضحك أحد حتى سيد نفسه، عند ذلك ذلك غادرت البيت صامتاً ومحبطا.