د. رشا سمير تكتب: لا تشبه ذاتها

مقالات الرأي



هل تتشابه الأوجاع؟ هل تتلازم قضايا الأوطان؟ هل يولد الحُلم من بين أقدار الشعوب؟ أم تقتل الأزمات أحلامهم ولا يبقى منها فى نهايات الطُرق سوى سراب تدركه العقول ولا تلمحه الأبصار؟ هل الهروب من الوطن فريضة غائبة تدفعنا إليها الهموم؟ أم أن الهروب إلى أحضان الوطن هو المرسى الوحيد لسفن ارتدت أشرعتها ثوب الترحال؟.

أسئلة كثيرة طاردتنى كلما تعمقت بين سطور تلك الرواية التى أسرتنى لتفردها واختلافها..

إنها رواية (لا تُشبه ذاتها) للروائية والإعلامية الأردنية ليلى الأطرش.. الرواية صادرة عن دار الشروق الأردنية للنشر والتوزيع فى 232 صفحة من القطع المتوسط.

التقيت بالروائية الموهوبة ليلى الأطرش فى معرض كتاب عمان بالأردن وكان لى شرف أن أكون معها على منصة واحدة للمشاركة فى ندوة عن الرواية التاريخية بين واقع الحدث وخيال المؤلف، فكانت معرفتى بها لأول مرة هى الفائدة الكُبرى التى تعودت أن أجنيها من المشاركة فى معارض الكتاب الدولية، فهى الفرصة الثمينة للتعرف على الأقلام المختلفة من الروائيين العرب وتبادل الأفكار والأعمال معهم..

استمعت إليها وهى تتحدث بثبات وقناعة عن رواياتها العديدة المعجونة بتاريخ فلسطين وهموم النساء.. هكذا تحولت الأقلام بين أيدى الروائيات إلى طلقات من الحبر تصيب الهدف فى مقتل.. فهى حقا روائية بمذاق مختلف..لأنها تكتب وتروي..ترسم وتحكي..تصور وتنسج هموم فلسطين ببراعة.

أهدتنى عدة روايات لها، منها (نساء على المفارق) و(أبناء الريح)..فوجدت فى أسلوبها نوعا مختلفا من الأدب..فأنا لم أتعود النقد بعين الناقد ولكن بعين القارئ، ولذا فمن بين عشرات الكتب التى تصلنى كل يوم لا أكتب إلا عن تلك الروايات التى تسكننى وتحتل حواسي..وأنا اليوم أكتب عن رواية (لا تُشبه ذاتها) التى أعجبتنى لأنها منمقة وسلسة وتحمل قضية قد تبدو معتادة لكنها بحق مكتوبة بطريقة مختلفة..وهى قضية الأوطان والتهجير والشعوب التى تدفع ثمن طغيان الأنظمة المستبدة..

1- وجع البعاد:

الرواية تستعرض فى أكثر من خط درامى هموم الأوطان متمثلة فى أفغانستان وفلسطين من خلال قصة حب تتجمع خيوطها عند شخصين قد لا تجمعهما الظروف العادية..ولكن وجع البعاد يجمعهما عن جدارة..

إنها قصة غرام تجمع بين طبيبة أفغانية هى حبيبة ماء العين أرسلان الغلزانى ابنة زعيم القبيلة، ومهندس فلسطينى يُدعى مُنذر الشرفا، حيث تجمعهما قصة حُب فى مدينة الضباب عاصمة الملكية والرُقي..لندن..

تبدأ القصة بالراوى العليم فى تلك الرواية وهى حبيبة، التى تعود بذاكرتها لتروى سيرتها الذاتية من خلال كلمات تكتبها إلى ابنتها والتى تلخص قصتها فى كلمات تقول فيها:

« أنا حبيبة ماء العين أرسلان الغلزاني، قدرى الهجرة، أحس بأننى من مكانٍ لا أعرف، ولدتُ فى بلد، وتشكل وعيى فى بلد، وأبدأ معك فى بلدٍ لم يخطر على بال، أشباح نفسى تنقض على الأمكنة الجديدة، تُعايشها، تتكيف معها..تعتادها..لندن الوعي..وما قبلها ذكرياتٌ مختلطة عن وطن بعيد نسجته من تناثر القصص، ومن بقايا الأحلام، والرؤى، ومن شاشاتٍ لا يغيب عن أخبارها الوطن «.

كما تصف أيضا هزائم النساء فى وطنها فتقول:

«يشغلنى حال النساء هناك، ضاع الأمل فى التعليم والعمل مع أفكار سحبتهن إلى كهوف المقاتلين باسم الدين، نساء بلادى آلات تفريخ باسم الدين، يُنجبن أطفالا يتربون على التعصب والجهل وامتهان النساء».

2- عائلة الغلزانى:

ولدت بطلة الرواية حبيبة العين فى أفغانستان، فى مزار شريف، وعندما قام مجاهدو طالبان بنشر الإرهاب والدماء فى أنحاء هرات ومزار شريف وقندهار وتورا بورا وكابول، اضطر أرسلان الغلزانى السفير الأسبق لترك البلاد، والهجرة قسرا إلى لندن مع أفراد عائلته، زوجته هانية وأبنائه مُهاب، وفردوس، وعالم، وحبيبة..

حبيبة هى الإنسانة التى تظل تبحث عن ذاتها طوال الوقت لتكتشف كلما تهيأ لها أنها وجدت نفسها، إنها لم تعد تشبه ذاتها..وهنا يجب أن أشيد بعبقرية العنوان الجاذب والذى يحمل مضمون الرواية فى طياته..

أرسلان الغلزانى هو زعيم أفغانستانى مخضرم أخذ عائلته معه إلى المهجر وعلى الرغم من أوجاع الغربة، ظل يبحث عن الأضواء وظلت السُلطة تناديه حتى فى المهجر..

فى ظل تلك القصة تُسلط الروائية الضوء على أكثر من قضية متشابكة..العشق، السُلطة، قضية فلسطين، التصوف والإرهاب، قهر المرأة فى المجتمعات العربية..

على سبيل المثال، الحب الذى سقطت فيه الطبيبة الأفغانية مع المهندس الفلسطيني، بدا فى البداية حبا مشتعلا حاولت فيه السيدة الشابة أن تتمرد على كل التقاليد التى جرفتها طويلا لمجتمع العشائر الذى كبلها طويلا لوطنها الأصلى أفغانستان..ومن مرحلة المراهقة التى حاولت أن تتمرد على الموروثات إلى مرحلة العشق الذى أعادها مرة أخرى إلى مربع الظل لتقف خلف من تحب، لتبقى طوال الوقت إنسانة لا تُشبه ذاتها..حتى عندما تسقط فى قبضة مرض السرطان المتوحش، وتقرر بكل شجاعة أن تتحداه بمفردها وأن تكتب سيرتها الذاتية لابنتها التى أصبحت هى الشىء الوحيد الباقى لها من قصة حب عنيفة تحدت كل الأعراف وفشلت على أعتاب الاختلاف.

3- الآخر:

تستعرض ليلى الأطرش أيضا تلك الصداقة الغريبة الفريدة بين امرأتين جمعتهما قيمة واحدة هى القبول والتعايش رغم اختلاف العرق والدين مع اعتناق إحداهما الصوفية وتمسكها بتعاليم التسامح، وهى الشريفة الأفغانية والتاجرة اليهودية سارة التى انتقلت صداقتهما إلى لندن مع الأسرة حين قرروا الارتحال.

تستعرض الروائية أيضا كيف انتشرت حالات الرفض وعدم قبول الآخر والصراع ضد الاختلاف بكافة صوره، الصراع الذى أدى إلى تفكك المجتمعات وسقوط الدول..

غصنا مع الروائية كذلك من خلال وصفها المؤلم لرحلة البطلة الطويلة مع مرض السرطان من وهن ومعاناة وخوف وتوجس..

لحظات المرض هى تلك اللحظات التى تسقط فيها كل الأقنعة عن الأحلام والمطامع ويبقى الإنسان فى صراع مع غد لا يعرفه وألم يقتل أحلامه، مثل تلك اللحظات التى سقطت فيها خصلات شعر البطلة بين يديها لتعلن وفاة أنوثتها..

الرواية كما وصفتها الروائية باختصار هى قصة رجل وامرأة ووطن ضائع:

«الآن أسأل نفسي، لماذا كتمت سر المرض عن الجميع؟ أهو الخوف من النهاية؟ لهذا دونت قصتى كما تداعت ذكرياتي..كتبت دون تخطيط وبلا حذف، سيرتى أنا والوطن وأنت..لم أجمل ولم أحذف سوى ما سقط من الذاكرة سهوا، فمعظم من يكتبون التاريخ أو السيرة الذاتية يسقطون منها ما يريدون..حرجا أو محاباة لمن أوكلهم بتدوينها أو طمعا بعطايا من يسجلونها لصالحهم..ولا أريد شيئا من هذا».

4- بين أروقة التاريخ:

عودتنا ليلى الأطرش أن تنسج من التاريخ بقلمها الحالم ومفراداتها الناعمة روايات تستحق القراءة.. فمن خلال نسيج الرواية ألقت الضوء ببراعة على ثلاثة أصدقاء كتبوا التاريخ من خلال سيرتهم الذاتية..عمر الخيام وحسن الصباح ونظام الملك..أصدقاء جمعهم طموح العلم وحلقات شيوخ الصوفية، اشتغلوا بالطموح وارتقوا سلم المجاهدات إلى تمامه..

هكذا يكبر البشر على فروقهم..قلة تتمسك بما رأت نفسها عليه فتصل إلى غايتها، وكثيرون تجرفهم إغراءات الحياة ليصبحوا على صورة ينكرون فيها أنفسهم.

تحكى باختصار من خلال صفحات الرواية عن تلك العلاقة بين الصباح والخيام ونظام الملك.. وإلى أين انتهوا؟.

كما تلقى الضوء سريعا على تاريخ الصوفية وصورة للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي، الذى سكن القدس سنوات قبل أن يقرر الرحيل إلى دمشق لتنتشر سيرته وتغزو تعاليمه سائر البلدان العربية..

5- الأدب النسوى:

تعودنا أن الأدب النسوى لا يدور سوى حول مشاكل النساء وهمومهن.. تعودنا أن تكتب الأقلام النسائية عن الحب والخيانة والزواج والطلاق..فبقى الأدب النسوى كثيرا حبيس زنزانة التكرار..

أما أن تكتب المرأة عن هموم الأوطان وقصص التاريخ والقضايا السياسية الشائكة، فتلك هى بداية الأدب المختلف..

تحية للروائية المحترمة ليلى الأطرش التى استطاعت من خلال عمر أدبى طويل وروايات عدة أن تنافس الأدب الذكورى بل وتتفوق على كثير من الأقلام التى طالما هاجمت أدب النساء واتهمته بالمحدودية..

إنها رواية تستحق القراءة وعمل أدبى محترم ومتميز..