سليم صفي الدين يكتب: من الجهاد فى سوريا إلى حب الفلسفة والموسيقى

ركن القراء

سليم صفي الدين
سليم صفي الدين


أخرجت هاتفى من جيبى واتصلت بالشيخ:
- أنا جاهز أسافر يا شيخ!
- عقدت النية يعنى؟
- أيوه.
- نتكلم لما نتقابل.

تقابلنا.. قبّلت يده. هو شاب ثلاثينى مسئول عن إعداد الشباب المجاهد! سألنى: سوريا برضو؟ 

أجبت: أيوه. 

قال: طيب جهز ورقك.

تعرفت إليه إبان ثورة يناير. كنت ملتحيًا حينها، ولا أرغب إلا فى إقامة شرع الله، الذى حاربه مبارك وأعوانه!

تربيت على حلقات الشيخ محمد متولى الشعراوى، وكُتب الدكتور مصطفى محمود، وعقدت حلقات فى الأكاديمية التى تخرجت فيها، مع زملائى الطلاب، لمناقشة حلقات الشعراوى! مررت بمرحلة تذبذب على مدار كل السنين السابقة من عمرى، فكل ما كنت أسمعه وأتلقنه من علمائى منحصر بين "الحلال والحرام"، وأظن أنه لم يكن لديهم شىء مباح، فكل شىء كان حرامًا أو مكروهًا. وقتها كنت فى سن البلوغ (المرحلة الإعدادية)، وكنت شيخًا صغيرًا قائمًا على مسئولية مسجد أسفل المنزل المقابل لمنزل عائلتى.. أؤذن فيه للخمسة أوقات، ونادرًا ما يفوتنى فرض فى غير الجماعة. تعرفت حينها إلى جماعة التبليغ والدعوة، الذين كانوا يزورون المسجد على مدار شهور متتالية، ودَعَوْنى لأخرج معهم فى سبيل الله! أحزم حقيبتى، وأعقد النية، وأتوكل على الله.. أعتكف فى مسجد تحدده الجماعة، وننام فيه جميعًا طوال فترة أيام الاعتكاف، وبين الصلوات نذهب لطرق الأبواب، ونتكلم مع أصحابها عن الصلاة والصوم، وندعوهم للصلاة فى المسجد معنا! 

كان الصراع حادًّا بين أن أعيش كبقية الأطفال، وبين أن يُحرَّم علىَّ كل شىء! فكنت دائمًا ما أترك الدنيا كلها وألجأ إلى المصلَّى فى غرفة نومى بالمنزل، وأقيم الليل بالساعات، باكيًا متضرعًا متذللاً لله!

دخلت فى صراعات نفسية ضخمة، لم أفهمها حينها.. كلها بسبب رغبتى الدفينة فى الانطلاق والحرية. لكن الدين الممثَّل فى مشايخى كان دائمًا يحول بينى وبين كل ما هو جميل. 

حياتى كانت تقليدية لا جديد فيها.. أنهيت المرحلة الإعدادية فالثانوية، ثم انتقلت إلى الجامعة، ومع كل مرحلة تحتدّ الصراعات وتشتدّ، فكانت الحياة العادية والطبيعية حين أمارسها تشعرنى كأننى ارتكبت كل جرائم الأرض مجتمعة!  الكلام مع النساء حرام؛ فهنّ فتنة، وهنّ من أخرجن أبانا آدم من الجنة.. الجلوس على المقاهى والكافيهات حرام؛ فهو لهو وفيه يلعب الضالّون النرد (الطاولة).. المصايف حرام؛ فالنساء يتعرين، والرجال كلهم ديوثون. 

حتى أختى الصغيرة، حبة قلبى، عانت معى فى تلك الصراعات كثيرًا، فقد كنت أتحكم فى حياتها على نحو مبالغ فيه.. متى تخرج، ومتى تعود، ومع من تتكلم، وماذا تلبس.. فضلاً  عن بقية بنات العائلة.

استمرت حياتى فى تلك الصراعات النفسية المُرة، وأقر الآن أننى كنت مريضًا أحتاج إلى طبيب نفسى بأسرع وقت ممكن حينها. حتى إذا قامت ثورة يناير، أطلقت لحيتى أخيرًا، وزاد الالتزام والمسئولية نحو الدين، وضرورة نشره وتطبيقه. ثم قابلت الشيخ المذكور أعلاه.. دخل لى من حيث استرق السمع عنى.. أنا شاب فى منتصف العشرينات، كل طموحه تطبيق شرع الله بأى ثمن؛ لأن الحق والعدل والاستقامة فقط فى تطبيق الشرع.. المسيحيون يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون، والنساء يتحجبن حتى ينتهى الغلاء ويُرفع البلاء، ويَقِرْن فى بيوتهن، حتى يجد الشباب المسئول عن إطعامهن عملاً! 

كنت أستمع لحديثه بورع، فقد كان يشبه فى بساطة لغته الشعراوى، وفى فصاحته وابتسامته الحبيب الجفرى، ورغم صغر سنه كان صارمًا حاسمًا صانعًا لمكانة نهابها جميعًا.. كان مسيطرًا علينا تمامًا. الغريب فى الأمر أنه لم يكن يلتقى مجموعات من محافظة واحدة، إنما يجتمع مع مجموعات يعلم يقينًا صعوبة تلاقيها مرة أخرى، وكان يأمرنا ألا يفصح بعضنا عن صفحاتنا على فيسبوك لبعض، وأن نكون طبيعيين، وألا نلفت الانتباه أبدًا.

رغم العلاقة التى استمرت نحو سنة، لم نتكلم إلا عبر الهاتف، وكان الكلام قليلاً  جدًّا، واللقاءات يمكننى حصرها.. لكنه كان يعلم ماذا يقول، ومتى يقوله، وكيف يقوله! 

بدأت تجهيز أوراقى، فقد استلمت شهادة تأدية الخدمة العسكرية أخيرًا فى مايو 2012، وشرعت فى استخراج الباسبور دون علم أهلى، حتى تعرضت لحادث مؤلم فى الشهر نفسه من العام نفسه فى ميدان الجيزة.. اعترضت شابًّا يتحرش بفتاة! كان نحيلاً فى مثل جسمى، وعندما منعته سألنى: "هِىّ تخصك؟" فأجبت: "لأ، بس ده ماينفعش". لم أكد أنهى حديثى حتى وجدت خمسة أشخاص انضموا إلى هذا الشاب، يصطحبون معهم ثلاثة كلاب ضخمة.. ضربونى وسبونى وأهانونى، ولم يدافع عنى أحد، رغم أن الجميع رآنى وأنا أدافع عن بنت تتعرض للتحرش. عندما أنهى المعتدون ما بدأوه جريت فى الشارع من شدة الخجل والضعف الذى شعرت به، واتصلت بصديقى "محمد عبدالله نصر".. كلمته وأنا منهار تمامًا، وبكيت بحرقة وأنا أقص عليه ما حدث.. ولحسن الحظ، جعلتنى الحالة التى كنت فيها أصرّح له بأننى ذاهب إلى سوريا. انفعل علىَّ وصفنى بالمنساق، واتهمنى بأننى لا أفكر.. وظل يشرح لى ما يدور فى سوريا، ومراد هؤلاء المشايخ الذين أتبعهم كالأعمى. ولكى يضغط علىّ أكثر قال: "هذا فراق بينى وبينك"!

كان لصديقى "نصر" فعل السحر علىّ، ورغم أنه كان مكروهًا من مشايخى كان محبوبًا لى، ولا أعرف السبب. تقابلنا بعدها مرات عدة.. أقنعنى بعدم السفر، وللحق كنت أبحث عمن يمنعنى، فقد كنت محبًّا للحياة، ولكننى كنت مقيدًا عنها، وكان هو سببًا كبيرًا من أسباب تحريرى. بعدها أهدانى كتابًا كان لى طريق النور.. كان كتابًا للدكتور نصر حامد أبوزيد يحمل اسم "الخطاب والتأويل"، وكان يحمل بين جنباته الدعوة إلى الحوار؛ لأن عدم الحوار يشيع جوًّا من العفن الفكرى، ولأنه كلما غاب الحوار غاب معه عقل الأمة، كما يوضح أن مفاهيم كثيرة مثل "العلمانية والردة والدولة الدينية والإيمان والعقيدة..." تحتاج كلها إلى التأويل والحوار؛ لوضعها ضمن رؤية معاصرة. 

كل ما قرأته بلا أى استثناء فى هذا الكتاب كان جديدًا علىَّ.. المصطلحات وشروحاتها، وأسماء المفكرين الذين ناقض أبوزيد أفكارهم... فدخلت فى عالم لم أعرفه، ولكنى انجذبت إليه على نحو غير عادى.. بدأت القراءة لزكى نجيب محمود، وابن رشد، اللذين عرفتهما من الكتاب نفسه، ورجعت إلى أدبيات نجيب محفوظ، وتعرفت على يوسف زيدان، وكان لروايته "ظل الأفعى" مفعول السحر فى تغيير مفهومى عن المرأة ونظرتى إليها، فضلاً عن روايته البديعة جدًّا "النبطى" التى خرجت منها بسؤال هامّ ظللت أبحث عن إجابته لأكثر من ثلاثة أعوام! 

تحولت مكتبتى من خواطر الشعراوى، ومصطفى محمود، وعائض القرنى، ومحمد حسان، وحسين يعقوب، وكتيبات التطرف المعروفة عن الحجاب، وعذاب القبر... إلى آخره، إلى كتب فرج فودة، ونجيب محفوظ، ويوسف زيدان، وما نٌقِل عن سقراط، وما كتبه أرسطو، وبرتراند راسل.. ثم تعرفت على الكتب الإلكترونية، وبعض المواقع المهتمة بالسياسة. كانت سنوات التحول مليئة بالمرار والخوف والرعب، فكنت أرى الإله المرعب المجرم الذى صوره المتطرفون لى فى كتبهم وحلقات دروسهم يطاردنى طوال الوقت، وكان الله المحب يدفعنى نحو هذا الطريق الملىء بالنور والعلم والفلسفة والحب والموسيقى، وكرة القدم التى حرمت نفسى منها. كنت أجلس فى كثير من الليالى أبكى دون سبب.. بداخلى كلام لا أفهمه، ولا أعرف كيف أتكلم به.

أتذكر أننى فى صباح أحد أيام عام 2014، استقليت سيارة مايكروباص للذهاب إلى العمل، وبينما أقرأ رواية نجيب محفوظ الرائعة "أولاد حارتنا"، ومع تصاعد أحداث الظلم فيها، هتفت البطل قائلاً: "يا جبلاوى". ثم نظرت إلى السماء وبكيت بشدة، ولم أكترث لمن حولى حينها. 

أنهيت تلك الصراعات أخيرًا بعد سنين عجاف، فصرت شخصًا مستقلاً، أومن بالإنسان، وأرى أنه من ابتغى غير الحب دينًا فقد كفر، وأن الكون تشكل مع عزف أول مقطوعة من تداخل الأصوات معًا. فالروح هى الموسيقى، والله أو الإله أو الرب أو المسيح، أو حتى بوذا، أو أيًّا ما كان مسماه، لا يحرق أو ينتقم أو يؤذى تحت مسمى البلاء.. فالإله لا يفعل أفعال المجرمين.

كتبت باقتضاب وتوتر، وحضرتنى صراعاتى المُرة فى تلك السنوات.. لم أذكر الكثير من التفاصيل، ولم أتحدث عن كيفية انتهاء علاقتى بذلك الشخص الذى قيل إنه قُتل فى سوريا وسط صفوف داعش.. فى الحقيقة لا أعلم صحة هذا الكلام من عدمها، لكنى متأكد من أنه لم يعد موجودًا فى مصر، بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة. كنت شاهدًا على سفر كثير من هؤلاء الشباب، إما لنشر الإسلام فى إفريقيا مقابل المال والزاوج، وإما للجهاد فى سوريا وليبيا على وجه التحديد.

أتممت عامى الثالث والثلاثين مطلع هذا الشهر، فوجدتنى وأنا أقف على أرض صلبة، أدرس الفلسفة فى جامعة القاهرة حاليًّا، وأحضّر لروايتى الأولى التى أناقش عبرها صراع الأديان، وحرية التنقل من دين إلى آخر، أو ترك كل الأديان والاستكانة إلى الإلحاد كاختيار حر. أنظر إلى الماضى كله، بكل تفاصيله، وأكتب وأنا فخور بما حققته من تقدم إنسانى فى مسار حياتى البسيطة، التى أحاول جاهدًا أن أملأها بالحب والموسيقى والرقص والفلسفة.. أكتب عما كنت عليه، وما وصلت إليه!

لا تحرموا أنفسكم متع الحياة، فالإله لن يغضب لسعادتكم. ولا تنفصلوا عن أرواحكم بهجر الموسيقى. ولا تتوهوا وسط دروب الحياة بتجاهل الفلسفة.