محمد مسعود يكتب: عاطف الطيب.. هزمه الموت وخلدته الموهبة

مقالات الرأي



محمد خان رفض إخراج "سواق الأتوبيس" وأعطى المعالجة الدرامية لعاطف الطيب فثار بشير الديك

أصر على وضع اسم الديك على تيتر "الهروب" بجوار مصطفى محرم وبكى لأنه لم ينفذ ذلك

سمير فريد طالب بسحب شهادة تخرجه فى معهد السينما بعد فيلم "الغيرة القاتلة".. وكتب اعتذارا على نفس المساحة بعد "سواق الأتوبيس"


إذا قدر عمر الإنسان بالمسافات، لاشترى عاطف الطيب أطول الطرق، بدلا من طريق قصير، قطعه حائرا بين سماء الحلم، وأرض الحقيقة، كان كل ما يعنيه أن يقدم الكم الأكبر من الأعمال السينمائية، مثل رجل قرر إنجاب أكبر عدد من الأبناء ليحملوا اسمه، ويحكوا سيرته، فحلاوة عشقه للسينما منعته من الاعتراف بمرارة الحقيقة، حقيقة إن بعض الحب إثم، إن كان حبه سيودى بحياته.. ويقصف عمره.

1- فى مساء السادس والعشرين من ديسمبر عام 1947، ضجت جزيرة «السورانية»، التابعة لمحافظة سوهاج بصعيد مصر، بصراخ امرأة داهمتها آلام الولادة، وخلال دقائق قليلة، خرجت النساء للمساعدة، وأعلن الرجال عن استعدادهم القيام بأى طلب يطلب منهم، كإحضار داية، أو استدعاء مراكبى لإحضار داية من خارج الجزيرة، وما هى إلا ساعات قليلة، حتى سكت صراخ المرأة، وهدأت أنفاسها، فيما تعالى صراخ المولود، الذى أطلق عليه والده اسم «عاطف».

لم يكن يبدو على عاطف علامات النبوغ طفلا، حتى عندما تركت أسرته القرية ونزحت إلى حى بولاق الدكرور، كان صبيا عاديا يساعد والده فى عمله بمحل الألبان الذى افتتحه واعتمدت عليه الأسرة بأكملها كمصدر للرزق، كان يحصل على مصروف قليل، يدخر منه، ما يستطيع للذهاب إلى السينما، وبالتحديد سينما «مرمر»، أو «سمارة»، وعند عودته للبيت كان يمثل لأسرته ما رآه.

لذا لم تتفاجأ والدته، بطلبه الالتحاق بالمعهد العالى للسينما لدراسة معشوقته، والتحق بالفعل رغم اعتراض الأم التى قالت «قدم فى حاجة أحسن»، لكن هل يوجد أفضل من السينما ؟، لم يجد عاطف الطيب أفضل منها فقرر الالتحاق بالمعهد رغم حزن الأم.. ومثلما كان طفلا عاديا، كان طالبا عاديا، لم تبد عليه علامات النبوغ أثناء الدراسة فى المعهد، كان دائما هادئا مبتسما قليل الكلام، حتى إن مشروع تخرجه لم يكن الأفضل بين أقرانه.

درس عاطف فى معهد السينما وتخرج فيه، ليشاهد فيما بعد بأم عينه انهيار الحلم الناصرى، والاصطدام بكابوس الانفتاح وسياساته التى سرقت نصر أكتوبر وأفرزت طبقة جديدة جنت ثمار هذا الانتصار، وبعد إخراجه لفيلمين تسجيليين عمل مساعدا للمخرج الكبير الراحل يوسف شاهين، وفى بعض الأعمال الأجنبية التى صورت بمصر.

2- بدا عاطف الطيب متعجلا خوض تجربته الأولى وتقديم نفسه للجمهور والنقاد وللوسط السينمائى كمخرج، وعندما لم يسند له المنتجون أى عمل قرر إنتاج باكورة أعماله «الغيرة القاتلة»، الذى كتبه وصفى درويش عن معالجة لنص «عطيل» لويليام شكسبير، لكن لم ينجح الفيلم فى تقديم عاطف كمخرج مبشر، ولم يوفق عاطف نفسه فى التجربة الأولى التى شابتها الهفوات الإخراجية والقفزات الدرامية غير المبررة، لكن أغلق عاطف قلبه على تجربته، رافضا أن يتسلل إليه اليأس، لكن الغصة الحقيقية التى لم يستطع التغلب عليها هى سهام النقد التى ضربته فى سويداء قلبه.

كتب الناقد سمير فريد مقالا عريضا فى جريدة الجمهورية، مطالبا بسحب شهادة تخرج عاطف الطيب من معهد السينما وإعادته للدراسة مرة أخرى، فما قدمه لا يجوز أن يكون لمخرج يحمل شهادة التخرج فى المعهد العالى للسينما، غير أن سهام النقد لم تطل صاحب النص أو السيناريست وصفى درويش، وتحمل عاطف الطيب سهام النقد وحده.

أثناء تصوير المشاهد الخارجية لفيلم «الغيرة القاتلة» بالإسكندرية، كان يصور المخرج محمد خان فيلمه «موعد على العشاء»، الذى صاغ له السيناريو والحوار المبدع الكبير بشير الديك، عن قصة كتبها خان، وتصادف تواجد خان والديك والفنان حسين فهمى ومدير التصوير محسم نصر فى فندق على مقربة من فندق إقامة عاطف الطيب وسعيد شيمى، وكان الأخير صديقا لمحمد خان، فتقابلوا أكثر من مرة.. ليتعرف بشير الديك بعاطف الطيب.. ليكونا معا تؤما روحيا فى أرقى الأعمال وأبهاها.


3- السيناريست الكبير بشير الديك روى لنا قصة «سواق الأتوبيس» من البداية، وهى أسرار لم تنشر من قبل، أهمها أن قصة الفيلم التى كتبها محمد خان لم تتعد الصفحة الواحدة وكانت بعنوان «حطمت قيودى»، لرجل يعمل سائق تاكسى، يحمل من هموم الدنيا ما يثقل صدره وكاهله، يركب معه زبون لم يكف عن الكلام أبدا، وأثناء المشوار يركن السائق سيارته أعلى كوبرى أكتوبر ويحضر «جركن بنزين»، ويسكبه على السيارة لتشتعل أمام عينيه.

أعطى خان الورقة لبشير الديك الذى قرأها مندهشا متسائلا عن الدوافع وعن بقية الحكاية فقال خان «نفكر»، جلس بشير الديك بمفرده وكان من ضمن أحلامه المؤجلة عمل فيلم عن سائق أتوبيس من الجيل الجديد بعد حرب أكتوبر، فكان السائد أن يقود العجائز الحافلات الكبيرة، غير أنه بعد الحرب بدأ جيل جديد يقود أتوبيسات هيئة النقل العام، وكانوا يجملون السيارة ويضعون الستائر، فمزج بشير الديك بين أحلامه وبين «ورقة خان»، وكتب معالجة درامية 40 صفحة، وأطلق على الفيلم اسم «سائق الأتوبيس»، وقرأ خان المعالجة، وبدا غير متحمس، لا لشيء إلا لأنها لم تناسبه كمخرج، فهو كان يود عمل فيلم «حطمت قيودى» وليس «سواق الأتوبيس»، وعلى الفور وبدون علم بشير الديك توجه محمد خان إلى عاطف الطيب، وأعطاه المعالجة.. وما إن قرأها حتى بدا متحمسا للغاية، لكن هذا الحماس قوبل بغضب من بشير الديك فهو لم يعط الإذن لخان بإعطاء المعالجة لعاطف الطيب.. لكن خان رد: «مفيهاش حاجة.. كلنا أصحاب»، حماس عاطف الطيب بلغ مداه فى جلسات عمله مع بشير الديك الذى انتهى من السيناريو تمامًا خلال 20 يوما بإلحاح شديد جدا من عاطف الطيب الذى كان شبه مقيم لديه فى المنزل.


4- رشح عاطف الطيب وبشير الديك الفنان الكبير الراحل نور الشريف ليلعب دور «حسن» فى فيلم «سواق الأتوبيس»، وكان نور هو صاحب اقتراح تغيير الاسم من «سائق إلى سواق»، وكانت لخبرة بشير الديك ومعرفته خير المعرفة بأهالى دمياط وبورسعيد دورا عظيما فى صياغة حوار أدهش عاطف الطيب ونور الشريف.. ورمز الديك والطيب للوطن الذى ضاع وسط أبنائه فى حقبة السبعينيات بورشة المعلم «سلطان» الذى أدى دوره الفنان الكبير عماد حمدى والذى استهل أول جمله الحوارية فى مشهده الأول بالفيلم بجملة «الجمل برك».

ومع عرض الفيلم والنجاح الكبير الذى فاق جميع التوقعات لمخرج خرج لتوه من تجربة أولى كانت كفيلة بتدمير حلمه السينمائى، بكى عاطف الطيب وهو يقرأ كلمات سمير فريد فى نفس الصفحة التى طالب فيها بعودته للدراسة، يقول سمير فريد إنه أمام مخرج كبير ومبشر وأنه يعتذر عن حكمه المسبق ومقاله الأول فى حق هذا المخرج الموهوب.. لكن ما حدث فى القاهرة، لم يكن أقل سخونة مما حدث فى مهرجان الإسكندرية السينمائى الدولى.. عندما حمل عاطف الطيب وبشير الديك النسخة الأولى من الفيلم ووضعاها فى سيارة عاطف التى كانا يطلقان عليها اسم «البعكوكة» لقلة حجمها، وسافرا للإسكندرية وسلما نسخة الفيلم قبل الظهر، على أن يعرض بعد العصر فى سينما مترو، وذهبا لتناول الغداء وقابلا السيناريست الكبير عبد الحى أديب والكاتب أحمد صالح وذهبوا جميعا لمشاهدة الفيلم وكان رد فعل عبدالحى أديب: «أنتوا عملتوا الفيلم ده إزاى».

الإجابة قالها لنا بشير الديك قائلا: الفيلم أشبه بـ«الميتاواقعى»، ما فوق الطبيعة وهو تعبير استعرته من أستاذنا إدوارد الخياط.


5- حصل الفنان الكبير نور الشريف على جائزة أفضل ممثل فى مهرجان «نيودلهى» السينمائى، وتفاعل الجمهور مع الفيلم تفاعلا غير مسبوق، لكن قبل عرض الفيلم بالمهرجان تقرر عرضه بالسفارة المصرية بالهند، وكان الدكتور مصطفى الفقى يشغل منصب الوزير المفوض، بينما كان الملحق الإعلامى للسفارة حمدى الكنيسى، وحضر الفيلم عدد كبير من المصريين والعرب المقيمين فى الغربة، وبعد عرض الفيلم أصيبت إحدى السيدات بانهيار نتيجة نوبة بكاء شديدة وسألت جميع الحاضرين: «هى مصر بقيت كده.. هو الأب بقى يتعمل فيه كده».. وبكى أغلب الحاضرين على بكائها، غير أن الطيب والديك ونور الشريف شعروا أن الفيلم مس الجمهور.. وسينمائيا، ذلك هو الفوز العظيم.

كان لعاطف الطيب قدرة هائلة على التقاط التفاصيل، ووضع روحه كمخرج فى أعماله، لذا شغلنى أن أعرف ممن عمل معه فى لوكيشن التصوير، كيف كان يلتقط التفاصيل بهذه البراعة، ووصلت لقناعة تامة من رواية المخرج على رجب الذى عمل معه مساعدا فى فيلمى «كشف المستور» تأليف وحيد حامد، و«ناجى العلى» تأليف بشير الديك.

طالب عاطف الطيب، على رجب بالذهاب له فى المونتاج بالهرم، وذهب على بالفعل، ووجد الأستاذ يعزمه على رحلة مضمونها ركوب أتوبيس «913» وخط سيره من الهرم إلى شبرا الخيمة، وكان من أكثر الخطوط قطعا للمسافة وأكثرها ازدحاما، وما إن ركبا الأتوبيس طلب من على كتابة الجمل الحوارية، والإكسسوارات وألوان الشنط سواء كانت بلاستيك أم «شبك»، ورصد ردود الأفعال، وحتى نظرات العيون الشاردة.

وذات مرة كان عاطف الطيب يشاهد أحد المسلسلات فوجد ممثلا لفت نظره فقرر إسناد أحد الأدوار له، فقال لعلى تواصل معه واجعله يأتى فى وقت حدده سلفا، وعندما جاء الممثل وجده عاطف الطيب يستقل سيارة فارهة وأحدث موديل لا تتناسب مع كونه ممثلا مبتدئا، وعندها قرر سحب الدور وإعطائه لممثل آخر، وعندما سأله على رجب عن السبب قال له الطيب : «مش هيكون مقنع فى الفقر»!.

يرى على رجب أن عاطف الطيب من أهم المخرجين فى مصر تعاملا مع شريط الصوت ولحظات الصمت.


6- كان لبشير الديك شقة بالمعمورة بمحافظة الإسكندرية، وكان يشارك عاطف الطيب حلما بعمل مسرحية استعراضية وأثناء جلسات العمل بالمعمورة شعرا بالجوع فطلبا طعاما جاهزا من أحد مطاعم الأسماك بالإسكندرية، وجاء السمك مالحا بشكل زائد عن الحد، وقتها شعر عاطف الطيب بتعب شديد، وعندما سأله بشير الديك عن السبب أخبره بالسر.. سر القلب الموجوع الذى يخفيه عن الوسط كى لا يكون سببا فى عدم إسناد المنتجين الأعمال له.. وبعد فترة انتهت زوجته التى كانت تعمل فى ألمانيا من إجراءات إجراء عاطف الطيب لجراحة تغيير صمامات القلب فى ألمانيا.. لكن أحد أصدقائه نصحه بعملها فى مصر لأن الألمان سيضعون له صمامات صناعية، بينما الطبيب المصرى سيأتى بمتبرع مصرى.

وقتها كان عاطف الطيب يحضر لفيلم «نزوة» وكان أسند بطولته لشريهان لكن الفيلم ذهب فيما بعد للمخرج على بدرخان والفنانة يسرا.


7- أثناء عمل ملحمة فيلم «الهروب» الذى كتبه فعليا بشير الديك – وإن كان قد رفض الحديث فى هذا الأمر رفضا قاطعا – طلب الطيب من صديقه تعديل السيناريو، فما كان من الديك إلا أن أعاد صياغته تماما، وأصر عاطف والمنتج مدحت الشريف على وضع اسمه، بعد استئذان صاحب السيناريو الأصلى مصطفى محرم.. لكن كان الأخير مسافرا وتمت طباعة الفيلم، ووقتها بكى الطيب على ضياع حق صديقه فى هذه الملحمة الخالدة.